الموسوعة الشاملة - الزهرة
صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : غول مازن الزهرة
المؤلف : ابن داود الأصبهاني
مصدر الكتاب : الوراق
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]
للناس مال ولي مالان مالهما ... غول مازن إذا تحارس أهل المال حراس
مالي الرضا بالذي أصبحت أملكه ... غول مازن ومالي اليأس مما يملك الناس
وقال آخر:
إني أرى من له قنوع ... يعدل من نال أو تعنى
والرزق يأتي بلا عناء ... وربما فات ما تمنى
وقال آخر:
ويمنعني وسوء الحال ليل ... فأكثر ما أقول بك استعنت
ويسألني صديقي كيف حالي ... فأوهمـه الغنى ولقد جهدت
ولولا أن أذكر الموت يسلي ... عن الدنيا ولذتها أسفت
وأعظم من نزول الموت أني ... أدان بما كسبت وما اكتسبت
وقال آخر:
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضر جار لي مجاورني ... ألا يكون لبابه ستر
وقال جعفر بن أبي طالب:
يا ليت للناس رسما في وجوههم ... تبين أخلاقهم فيه إذا اجتمعوا
وليت رزق أناس مثل نائلهم ... قوتا بقوت وتوسيعا إذا اتسعوا
وليت ذا الفحش لاقى فاحشا أبدا ... وذا التحكم أهل الحلم فارتدعوا
وليت من يمنع المعروف يحرمـه ... حتى يذوق أناس مثل ما صنعوا
وقال كعب بن زهير:
وعاذلة تخشى الردى أن يصيبني ... تروح وتغدو بالملامة والهشم
تقول هلكنا إن هلكت وإنما ... على الله أرزاق العباد كما زعم
فإني أحب الخلد لو أستطيعه ... وكالخلد عندي أن أموت ولم ألم
وقال عروة بن الورد:
إني امرؤ عافي إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني إن سمنت وأن ترى ... بجسمي شحوب الحق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد
وقال ابن البرصاء:
ولست بذي فضل وإن كنت نلته ... على الحي حتى لا تضر وتنفعا
أمن أجل أن لم تلق عزا كعزنا ... وتستجلب الأدنى إذا خاب أودعا
غضضت بأطراف البنان نفاسة ... على المجد حتى لم تدع لك إصبعا
وقال بشر بن المغيرة:
جفاني الأمير والمغيرة قد جفا ... وأمسى يزيد لي قد ازور حاجبه
وكلهم قد نال شبعا لبطنـه ... وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه
فيا عم مـهلا واتخذني لنوبة ... تنوب فإن الدهر جم نوائبه
أنا السيف إلا أن للسيف نبوة ... ومثلي لا تنبو عليك مضاربه
وقال آخر:
فيا بنت عبد الله وابنة مالك ... ويا بنت ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي
أخا طارقا أو جار بيت فإنني ... أخاف ذميمات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما في إلا تلك من شيم العبد
وقال عبد الله بن سبرة:
شتان عندي من أصيب ببلدة ... يهوى إلي ومن أصيب مجاوري
إن المصاب إذا أصيب ببلدة ... يهوى إلي كجار بيتي الحاضر
قالت هوازن والخطوب كثيرة ... ما ذنب قومك في القتيل الزائر
فكفيت قومك عقله ووديته ... وسننت ذلك سنة في عامر
وقال عبد العزيز بن زرارة:
لقد علمت أم الحويرث أنني ... إذا نزل الأضياف غير ذميم
فإن لا أكن عين الشجاع فإنني ... أرد سنان الرمح غير سليم
وإن لا أكن عين الجواد فإنني ... على المال في الظلماء غير لئيم
وقال بعض بني عجل:
إذا كنت ذا حظ من المال فالتمس ... بـه الأجر وارفع ذكر من في المقابر
وإن كثير المال يفنى وفضله ... كظل مقيل الشمس عند الهواجر
وقال آخر:
وإنا لمشاؤون بين رجالنا ... إلى الضيف منا ملحف ومنيم
فذو الحلم منا جاهل دون ضيفه ... وذو الجهل منا عن أذاه حليم
وقال آخر:
إذا نحن قلنا صدق القول فعلنا ... وكم قائل يكذبه الفعل
وقال آخر:
(1/193)
ألا ترين وقد قطعتني عذلا ... ماذا من البعد بين البخل والجود
ألا يكن ورق يوما أجود بها ... للمعتفين فإني لين عودي
لن يعدم المبتغي للخير يسألني ... إما نوالي وإما حسن مردودي
وقال آخر:
ومستنبح قبل الهدو دعوته ... بشقراء مثل الفجر ذاك وقودها
فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا ... بطارق نار محمد من يرودها
فإن شئت آويناك في الحي مكرما ... وإن شئت بلغناك أرضا تريدها
وقال آخر:
ومستنبح قال الصدي مثل قوله ... رفعت له نارا لها حطب جزل
وقمت إليه مسرعا فكتمته ... مخافة قومي أن يفوزوا بـه قبل
وداويته من سوء ما فعل الطوي ... بتعجيل ما ضم المزادة والرحل
وأوسعني حمدا وأوسعته قرى ... فارتج بحمد كان كاسبه الأكل
وقال آخر:
ومستنبح تهوى مساقط رأسه ... إلى كل شخص وهو للسمع أصور
يصفقه أنف من الريح بارد ... ونكباء ليل من جمادى وصرصر
حبيب إلى كلب الكريم مناخه ... بغيض إلى الكوماء والكلب أبصر
خطأت له ناري فأبصر ضوءها ... وما كان لولا خطأة النار يبصر
دعته بغر اسم هلم إلى القرى ... فأسرع يبوع الأرض والنار تزهر
فلما أضاءت شخصه قلت مرحبا ... رشدت وللصالين بالنار أبشروا
وقمت بنصل السيف والبرك جاهد ... لها زورة والموت في السيف ينظر
فأغضضته الطولى سناما وخيرها ... ولاء وخير الخير ما يتخير
وقال آخر:
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكل غني في العيون جليل
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى ... عشية يقري أو غداة ينيل
وقال آخر:
رمى الفقر بالفتيان حتى كأنـهم ... بأقطار آفاق البلاد نجوم
وإن امرءا لم يفقر العام بيته ... ولم يتخدد لحمـه للئيم
وقال الخريمي:
وإني لسهل الوجه للمبتغي القرى ... وإن فنائي للقرى لرحيب
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ليخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب
وقال الحسين بن رجاء بن أبي الضحاك:
قد يصبر الحر على السيف ... ويأنف الصبر على الحيف
ويؤثر الموت على حالة ... يعجز فيها عن قرى الضيف
وقال آخر:
الليل يا غلام ليل قر ... والريح يا موقد فيها صر
فأجج النار لمن يمر ... إن جلبت ضيفا فأنت حر
قال علي بن الجهم في كلب أهداه إلى بعض إخوانـه يوصيه به:
أوصيك خيرا بـه فإن ل ... ه سجية لا أزال أحمدها
يدل ضيفي علي في غسق ... الليل إذا النار نام موقدها
وقال علي بن محمد العلوي:
يسترسل الضيف في أبياتنا أنسا ... فليس يعلم خلق أينا الضيف
والسيف إن قسته يوما بنا شبها ... في الروع لم يدر عزما أينا السيف
قال أبو بكر محمد بن داود: وهذا أحسن ما قيل في معناه، غول مازن على أن الافتخار كله عندي يقبح، وأقبحه الافتخار بالسخاء خاصة، لأن الأجمل بأهل الكرم أن تنشر عنـهم فضائلهم، وأن يعترفوا هم بالتقصير على أنفسهم، فإن استقلالهم لمعروفهم الذي يستكثره غيرهم دل على كرم طباعهم من الشحح بما صنعوا من معروف إلى غيرهم حتى إن ذكر مكارمـهم بحضرتهم غير جميل من مادحيهم وتلقيهم إياه بالقبول غير محمود من فعلهم. وليس يجمل الافتخار في حال من الأحوال إلا بمن كفر ن، ونسب إلى غير ما يستحقه، فيحسن منـه حينئذ الاعتذار لنفسه بما ينفي عنـه ما قرب بـه كالذي يقول:
يعيرني بالدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
وعلى كل حال فالافتخار بالسخاء أجمل من الافتخار بضده، كما افتخر الذي يقول في شعره:
وإنا لنجفو الضيف من غير عسرة ... مخافة أن يعزى بنا فيعود
(1/194)
ولو كان هذا الشاعر صرف همته إلى ذكر مكرمة عن نفسه هذا الصرف قد أبر على كل من ذكرنا شعره.
الباب الرابع والسبعون
ذكر
من أظهر الجزع من الفقر
وقنع به، وافتخر بالصبر
قال حطان بن المعلى:
أنزلني الدهر على حكمـه ... من شاهق عال إلى خفض
وغالني الدهر بوفر الغنى ... فليس لي مال سوى عرضي
أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضي
لولا بنيات كزغب القطا ... رددن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض
وأنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي:
والله لولا صبية صغار ... وجوههم كأنـها أقمار
تجمعهم من العتيك دار ... درادق ليس لهم دثار
بالليل إلا أن تشب نار ... لما رآني ملك جبار
ببابه ما سطع النـهار
وقال آخر:
لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أقاس الدجى في حندس الظلم
وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم
أحاذر الفقر يوما أن يلم بها ... فيكشف الستر عن لحم على وضم
تهوى حياتي وأهوى موتها شغفا ... والموت أكرم نزال على الحرم
وأنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف تلتقيان
سأعمل نص العيس حتى يكفني ... غنى المال يوما أو غنى الحدثان
وقال نـهيك بن أساف:
أم نـهيك ارفعي الظن صاعدا ... ولا تيأسي أن يثري اليوم بائس
سيكفيك سيري في البلاد وبغيتي ... وبعل التي لم يحظ في البيت جالس
سأكسب ملا أو تبيتن ليلة ... لصدرك من وجد علي وساوس
ومن يكسب المال الممنع بالقنا ... يعش مثريا أو يود فيما يمارس
وقال آخر:
فما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن الق دلوك في الدلاء
تجيء بملئها يوما ويوما ... تجيء بحمأة وقليل ماء
وقال آخر:
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
ولا ترض من عيش بدون ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان مقترا
وأجود من هذه المعاني قول الآخر:
إذا ذهبت نفسي لدنيا أصبتها ... فقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن
لها تطلب الدنيا فإن أنا بعتها ... بشيء من الدنيا فذلكم الغبن
قال محمود الوراق:
بخلت وليس البخل مني سجية ... ولكن رأيت الفقر شر سبيل
لموت الفتى خير من البخل للفتى ... وللبخل خير من سؤال بخيل
وأحسن من ذا قولا وهو في ضد معناه الذي يقول:
إن القناعة عز دائم وغنى ... والذل والفقر في ذي الحرص والطمع
لا يمنعنك من عود بعارفة ... خوف الخصاصة أو كفران مصطنع
فهؤلاء الذين وصفنا حالهم في صدر هذا الباب إنما دعاهم إلى بذل أنفسهم في طلب المال الخوف على عيالهم، ولم يريدوا بذلك مباهاة لغيرهم، ولا مكاثرة لهم بأموالهم فهم لعمري أعذر ممن بذل نفسه، واستعمل جاهه، وانصب جسمـه في طلب ما لم تدفعه الضرورة إلى طلبه، ويكسب مالا فقرنـه إلى كسب كما قال امرؤ القيس، وهو من جيد كلامـه، وهو من الأمثال السائرة من شعره وإن كان غير محمود المعنى في حقيقته:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليلا من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
وكما قال أيضا:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونـه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وكما قال يزيد بن خذاق:
ذريني أسير في البلاد لعلني ... أصيب غنى فيه لذي الحق محمل
(1/195)
فإن نحن لم نملك دفاعا لحادث ... تلم بـه الأيام فالصبر أجمل
أليس كثيرا أن تلم ملمة ... وليس علينا في الحقوق معول
وكما قال أبو نواس:
تقول التي من بيتها خف مركبي ... يعز علينا أن نراك تسير
أما دون مصر للفتى متطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى في جريهن عبير
ذريني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير
وقال آخر:
سأبغي الغنى إما جليس خليفة ... نقوم سواء أو مخيف سبيل
لنخمس مال الله من كل فاجر ... وذي بطنة للطيبات أكول
وكما قال الأحمر بن سالم:
مقل رأى الإقلال عارا فلم يزل ... يجوب بلاد الله حتى تمولا
ولم ينـهه عما أراد مـهابة ... ولكن مضى قدما وما كان مبسلا
فلما أفاد المال جاد بفضله ... على كل من يرجو نداه مؤملا
فأعطى جزيلا من أراد عطاءه ... وذو البخل مذموم يرى البخل أفضلا
قال أبو بكر: وإن هذه الأشعار لفي غاية من جزالة اللفظ، وتوسط من جودة المعنى، ولم نعب قائليها، لأنـهم أساؤوا فيها، وإنما أردنا منـهم أن تكون رغبتهم في بذلها للمكاسب تأميلا للرفعة بها في العواقب، إذ قد استسلفوا مذلة السؤال، وليسوا على ثقة مما أملوه من علو الحال، ونحن الآن نذكر إن شاء الله من أثر القناعة والصبر، وتجشم مضاضة الإقتار والفقر.
أنشدني بعض أهل الأدب عن الرياشي لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
دليلك أن الفقر خير من الغنى ... وأن القليل المال خير من المثري
لقاؤك مخلوقا عصى الله بالغنى ... ولم تر مخلوقا عصى الله بالفقر
وأحسن الذي يقول:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... عوضا ولو نال الغنى بسؤال
وإذا النوال مع السؤال وزنته ... رجح السؤال وخف كل نوال
وقال بشر الضبعي:
إذا قل مالي لا ألوم ذوي الغنى ... ولا يتحنى للحوادث جانبي
ولست إذا ما أحدث الدهر نكبة ... بأخضع ولاج بيوت الأقارب
وقال أيضا:
إذا قل مالي أو أصبت بنكبة ... قدحت حياتي عفة وتكرما
وأعرض عن ذي المال حتى يقال لي ... قد أحدث هذا نخوة وتبرما
وما بي جفاء عن صديق ولا أخ ... ولكنـها حال إذا كنت معدما
وقال ابن أذينة:
لقد علمت لو أن العلم ينفعني ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنيني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يغنيني
وقال آخر:
وإن صفحة المعروف ضنت بوجهه ... بدا لك من معروفنا وجهه السهل
وما زال مذ كنا ملوكا وسوقة ... يموت بنا جور ويحيا عدل
وقال آخر:
ملأت يدي من الدنيا مرارا ... فما طمع العواذل في اقتصادي
ولا وجبت علي زكاة مال ... وهل تجب الزكاة على جواد
وقال آخر:
لقد علم الساري طروقا برحله ... وباغي الندى ما اللؤم لي بقرين
ومختبط يسعى إلي برحله ... فلم أفد منـه صرمتي بيميني
فنفسك ول اللوم عاذل وانطحي ... برأسك أركان الصفا وذريني
وقال آخر:
وإني امرؤ ما تستفيق دراهمي ... على الكف إلا عابرات سبيل
أحكم فيها الحق حتى أذلها ... إذا ذاد عنـه الحق كل بخيل
وقال أبو دلف:
إن نفسا كريمة تألف الصب ... ر إذا ما تغيرت حالاتي
لو دعتني إلى الدناة حياتي ... يا ابن عيسى هانت علي حياتي
إنما يحمد السجايا من الأح ... رار عند النوائب المعضلات
كل حي يقوى على الصبر في الس ... ر وصبر الكريم في النائبات
وأنشدني بعض أهل الأدب:
لا تكثري لم أقصر ويك في الطلب ... أي البلاد وأي الأرض لم أجب
(1/196)
هذا وفي خلال كلها سبب ... إلى الغنى غير أن الرزق لم يجب
لا أتهم الله في رزقي فما صرفت ... عني المكاسب إلا حرفة الأدب
قال أبو العبر:
ليس لي مال سوى كرمي ... فيه أمن لي من العدم
لا أقول الله يظلمني ... كيف أشكو غير متهم
قنعت نفسي بما رزقت ... وتمطت في العلى هممي
ولبست الصبر سابغة ... فهي من قرني إلى قدمي
فإذا ما الدهر عاتبني ... لم يجدني كافر النعم
وقال آخر:
إذا سد باب عنك من دون حاجة ... فدعه لأخرى لين لك بابها
فإن قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها
وقال آخر:
الدهر لا يبقى على حالة ... لكنـه يقبل أو يدبر
فإن تلقاك بمكروهة ... فاصبر فإن الدهر لا يصبر
وقال بعض الكلابيين:
فإني لصوان لنفسي وإنني ... على الهول أحيانا بها لرجوم
وفرق بين الحي بلوي مشتت ... ومحتمل من ظاعن ومقيم
وأقحاط أقوام كأن وليدها ... وإن كان حي الوالدين يتيم
قال بعض الأعراب:
إذا مت فابكيني بثنتين لا يقل ... كذبت وشر الباكيات كذوبها
بعفة نفس حين يذكر مطمع ... وعزتها إن كان أمر يريبها
وإن قلت سمح في الندى لا تكذبي ... فأما تقى نفسي فربي حسيبها
وأخبرني محمد بن الخطاب الكلابي أن فتى من الأعراب خطب ابنة عم له وكان معسرا، وأبى أن يزوجه فكتب إلى ابنة هذه الأبيات:
يا هذه كم يكون اللوم والفند ... لا تعذلي رجلا أثوابه قدد
إن يمس منفردا فالبدر منفرد ... والليث منفرد والسيف منفرد
أو كنت أنكرت طمريه وقد خلقا ... فالبحر من فوقه الأقذار والزبد
إن كان صرف الليالي رث بزته ... فبين ثوبيه منـها ضيغم لبد
قال: فدخلت بالأبيات على أبيها فقال لها: ما أريد لك صداقا غيرها، فدعاه فزوجه إياها.
الباب الخامس والسبعون
ذكر
من افتخر لنفسه بالإغضاء عن خصمـه
قال المتلمس:
تحلم عن الأدنين واستبق منـهم ... ولن تستطيع الحلم حتى تحلما
وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من ميله فتقوما
فلو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما
وهل كنت إلا مثل قاطع كفه ... بكف له أخرى فأصبح أجذما
يداه أصابت هذه حتف هذه ... فلم تجد الأخرى عليها مقدما
فلما أقاد الكف بالكف لم يكن ... له درك في أن تبينا فأحجما
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغا لنابيه الشجاع لصمما
وقال آخر:
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت أصابني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن ضربت لأوهنن عظمي
وقال آخر:
وذي خطل في القول يحسب أنـه ... مصيب فما يلمم بـه فهو قائله
عبأت له حلما وأكرمت غيره ... وأعرضت عنـه وهو باد مقاتله
وقال وعلة بن الحرث الجرمي:
ما بال من أسعى لأجبر عظمـه ... حفاظا وينوي من سفاهته كسري
أعود على ذي الجهل والذنب منـهم ... بحلمي ولو عاقبت غرقهم بحري
أناة وحلما وانتظارا لهم غدا ... فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر
ألم تعلموا أني تخاف غرامتي ... وأن قناتي لا تلين على الكسر
وقال ابن صريم الجرمي:
أرد الكتيبة مغلولة ... وقد تركت لي أحسابها
ولست إذا كنت في جانب ... أذم العشيرة مغتابها
ولكن أطاوع ساداتها ... ولا أتعلم ألقابها
وقال آخر:
وإنا لنعطي الضيم من لا نضيمـه ... يقر ونأبى نخوة المتظلم
أناة وحلما ثم كان لقاؤها ... رهينا بيوم كاسف الشمس مظلم
وقال آخر:
إن كنت لا ترهب ذمي لما ... تعلم من صفحي عن الجاهل
(1/197)
فاخش سكوتي إذ أنا منصت ... فيك لمسموع خنا القائل
فسامع السوء مشير بـه ... ومطعم المأكول كالآكل
مقالة السوء إلى أهله ... أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمـه ... ذموه بالحق وبالباطل
وفي نحوه:
فإن أنا لم آمر ولم أنـه قائلا ... ضحكت له كيما يلج ويستشري
وفي نحوه:
بني تميم ألا كفوا سفيهكم ... إن السفيه إذا لم ينـه مأمور
وفي نحوه يقول عمار بن ياسر:
توخ من الطرق أوساطها ... وعد عن الجانب المشتبه
وسمعك صن عن سماع القبي ... ح كصون اللسان عن اللفظ به
فإنك عند استماع القبيح ... شريك لقائله فانتبه
قال لقيط بن زراة:
أغركم أني بأحسن شيمة ... بصير وأني بالفواحش أخرق
وإنك قد شاتمتني فقهرتني ... هنيئا مريئا أنت بالشر أحذق
وقال طرفة:
وكلام سيئ قد وقرت ... أذني عنـه وما بي من صمم
فتصافحت لكيما لا يرى ... جاهل أني كما كان زعم
قال لبيد، وهذه تعرف للكميت:
ستذكرنا منكم نفوس وأعين ... ذوارف لم تضنن بدمع غروبها
وهل يعدون بين الحبيب فراقه ... نعم داء نفس أن يبين حبيبها
رأيت عذاب الماء أن حيل دونـها ... كفاك لما لا بد منـه شريبها
وإن لم تكن إلا الأسنة مركب ... فلا رأي للمحمول إلا ركوبها
تعاتبني في النصح فهر بن مالك ... ولم تدر ما يخفي الضمير عيوبها
ولو مات من نصح لقوم أخوهم ... لقد لقيتني بالمنايا شعوبها
أطيب نفسي عن لؤي بن غالب ... وهيهات مني ثم هيهات طيبها
أبوها أبي الأدنى وأمي أمـها ... فمن أين رابتني وكيف أريبها
ألا بأبي فهر وأمي ومالك ... وإن كثرت عندي وفي ذنوبها
قال معاوية بن أبي سفيان:
إذا لم أعد بالحلم مني عليكم ... فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم
خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد ... حباك على حرب العداوة بالسلم
ولبعض الأعراب:
وأغضي عن العوراء حتى يقال لي ... بأذني وقر عندها حين أطرق
وعندي جواب حاضر لو أردته ... من الصاب في فيه أمر وأعلق
حياء وإكراما لعرضي أصونـه ... وما خير عرض لا يزال يمزق
إذا بعت عرضي لم يذم مـهذبا ... وآخذ مذموما بـه اللؤم ملصق
إذا بعته منـه أخذت ندامة ... وخسران بيع إذ على الكف يصفق
وقال آخر:
وإني لأعطي المال من ليس سائلا ... وأصفح عن بادي السفاه سليم
وأحمي ذمام المرء أعلم أنني ... عليه بظهر الغيب غير كريم
وقال آخر:
فلو بي بدأتم قبل من قد دعوتم ... لفرجتها وحدي ولو بلغت جهدي
إذا المرء ذو القربى وذو الرحم أجحفت ... بـه سنة سلت مصيبته حقدي
ولبعض الأعراب:
قومي إذا فرطت منـهم بوادرهم ... لا يقرعون عليها السن من ندم
منا العفاف ومنا العفو عائدة ... إنا كذلك عوادون بالنعم
إنا إذا ما قدرنا واستعيد لنا ... فالعفو فيما نرى أدني إلى الكرم
ولأبي هلال الأسدي:
دع عنك مولى السوء والدهر إنـه ... سيكفيكه أيامـه ونوائبه
ويلقى عدوا من سواك يرده ... إليك فتلقاه وقد لان جانبه
وقال آخر:
وتجزع نفس المرء من سب مرة ... فيسمع ألفا مثلها ثم يصبر
فلا تعذراني أن أسيء فإنما ... شرار الرجال من يسيء ويعذر
وقال آخر:
يا أيهاذا الشاتمي ظالما ... والظلم مردود على الشاتم
أرحم من يبكي بشتمي ومن ... أولى بأن يرحم من آثم
ولمحمود الوراق:
إني شكرت لظالمي ظلمي ... وغفرت ذاك له على علمي
ورأيته أسدى إلي يدا ... لما أبان بجهله حلمي
(1/198)
ما زال يظلمني وأنصفه ... حتى بكيت له من الظلم
وقال آخر:
وليس يتم الحلم للمرء راضيا ... إذا هو عند السخط لم يتحلم
كما لا يتم الجود للمرء موسرا ... إذا هو عند العسر لم يتجشم
وقال معن بن أوس المزني:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تغدو المنية أول
وإني أخوك الدائم العهد لم أحل ... إن آذاك خصم أو نبا بك منزل
أحارب من حاربت من ذي قرابة ... وأحبس مالي إن غرمت فأعقل
وإن سؤتني يوما صفحت إلى غد ... ليعقب يوما منك آخر مقبل
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كف تبدل
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمـه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
وفي الناس إن رثت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحول
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بشيء آخر الدهر تقبل
وقال آخر:
بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين
يبيحك منـه عرضا لم يصنـه ... ويرتع منك في عرض مصون
وقال أبو الدلف:
إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت
سكت عن السفيه وظن أني ... عييت عن الجواب وما عييت
سفيه القوم يشتمني فيحظى ... ولو دمـه سفكت لما حظيت
أنشدني البحتري لنفسه:
دعاني إلى قول الخنى واستماعه ... أبو نـهشل بعد المودة والحلف
وأخطرني للشاتمين ولم أكن ... لأشتم إلا بالتكذب والعرف
فما ثلموا مجدي ولا فتلوا يدي ... ولا ضعضعوا عزي ولا زعزعوا كهفي
ولما تبارينا فررت من الخنى ... بأشياخ صدق لم يفروا من الزحف
وإن جديرا أن تبيت ركائبي ... بديمومة تسفي بها الريح ما تسفي
وأجبن عن تعريض عرضي لجاهل ... وإن كنت في الإقدام أطعن في الصف
وإني لئيم إن تركت لأسرتي ... أوابد تبقى في القراطيس والصحف
وقال آخر:
وإني لأقصي المرء عن غير بغضة ... وأدني أخا البغضاء مني على عمد
ليحدث ودا بعد بغضاء أو أرى ... له مصرعا يردي بـه الله من يردي
وقائل هذه الأبيات غير داخل في باب الصفح عن المجرمين بل هو داخل في باب انتظار الفرصة لمعاقبة المذنبين، وليس ذلك لعيب في كل الحالان إذ في الأحوال ما يكون الصفح عن المجرم جرما عظيما، وفسادا كثيرا، لأن العقاب على ثلاثة أضرب، فعقاب يدخل في باب التشفي، وعقاب يدخل في باب التأديب، وعقاب يدخل في باب الحدود. وإنما يصلح الصفح فيما يدخل في باب التشفي وحده. نحو ما قدمنا في صدر هذا الباب ذكره، ولا يصلح في النوعين المذكورين بعده. فأما ترك العقاب الداخل في باب التأديب فداع إلى فساد التدبير، وعائد بالضرر على المعفو عنـه وفي نحو ذلك يقول أبو تمام:
كانت لكم أخلاقه معسولة ... فتركتموها وهي ملح علقم
فقسا لتزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم
وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم ... إن الدم المغتر يحبسه الدم
وندمتم ولو استطاع على جوى ... أحشائكم لوقاكم أن تندموا
على أنـه ينبغي للمعاقب التأديب ألا يزيد على مقدار الاستحقاق فيدخل في باب الظلم كما قال أشجع:
منعت مـهابتك النفوس حديثها ... بالأمر تكرهه وإن لم تعلم
لا يصلح السلطان إلا شدة ... تغشى البريء بفضل ذنب المجرم
وأما ترك العقاب الذي يدخل في باب الحدود فمعصية لله عز وجل، ومن أعظم الجهل طلب المكارم بال في باب المحارم كما بلغنا عن عبد الملك بن مروان أنـه أراد قطع يد رجل سرق فكتب إليه من الحبس:
يدي يا أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوك أن تلقى مكانا يشينـها
ولا خير في الدنيا وكانت حبيبة ... إذا ما شمالي فارقتها يمينـها
(1/199)
فأبى إلا قطعها، فدخلت عليه أمـه فقالت يا أمير المؤمنين: واحدي وكاسبي. فقال: بئس الكاسب كاسبك، وهذا حد من حدود الله لا أعطله. فقالت: يا أمير المؤمنين: اجعله من الذنوب التي يستغفر الله منـها، فعفا عنـه. وهذا الفعل لا يسمى عفوا، لأن العفو إنما هو ترك المرء ماله وترك مال غيره مما قد جعل هو القيم عليه باستيفائه. فهو بباب التصنيع والإثم أشبه منـه بباب العفو والحلم.
الباب السادس والسبعون
ذكر
الافتخار بالشجاعة والانتصار
أخبرنا الحارث بن أبي أسامة: أن العباس بن الفضل حدثهم قال: حدثنا محمد بن عبد الله التميمي قال: حدثنا الحسين بن عبد الله. قال: حدثني من سمع النابغة الجعدي يقول: أتيت النبي صلى الله عليه فأنشدته قولي:
وإنا لقوم لا نعود خيلنا ... إذا ما التقينا أن نحيد وننفرا
وتنكر يوم الروع ألوان خيلنا ... من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا
فليس بمعروف لنا أن نردها ... صحاحا ولا مستنكرا أن تعقرا
وقال عنترة:
لما رآني قد نزلت أريده ... أبدى نواجذه لغير تبسم
فطعنته بالرمح ثم علوته ... بمـهند صافي الحديدة مخذم
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمـها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
إذ يتقون بي الأسنة لم أصح ... عنـها ولكني تضايق مقدم
يدعون عنتر والرماح كأنـها ... أشطان بئر في لبان الأدهم
وله أيضا:
بكرت تخوفي الحتوف كأنني ... أمسيت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها أن المنية منـهل ... لا بد أن أسقى بذاك المنـهل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
وقال خفاف حين قتل مالك بن حباب الشمخي معاوية بن عمرو السلمي:
إن تك خيلي قد أصيب صميمـها ... فعمدا على عيني تيممت مالكا
وقفت على علوى وقد خام صحبتي ... لأبني مجدا أو لأثأر هالكا
أقول له والرمح يأطر متنـه ... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
وقال العباس بن عبد المطلب:
أبا طالب لا ترض بالنصف منـهم ... وإن أنصفوا حتى تعق وتظلما
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواطع في أيماننا تقطر الدما
إذا خالطت هام الرجال رأيتها ... كبيض نعام في الوغى قد تحطما
تركناهم لا يستحلون بعدنا ... لذي رحم يوما من الناس محرما
وقال آخر:
إذا ظلمت حكامنا وولاتنا ... خصمناهم بالمرهفات الصوارم
سيوف كأن الموت حالف حدها ... مشطبة تفري متون الجماجم
إذا ما انتضيناها ليوم كريهة ... ضربنا بها ما استمسكت في القوائم
وقال أبو سفيان بن الحارث:
نحن وردنا بطن سلع عليكم ... بأسيافنا والخيل تدمى نحورها
تركنا بني النجار تعوي كلابهم ... غداة تولت واستمر مريرها
ونحن تركنا الخزرجي مجدلا ... تمج حياة النفس منـه زفيرها
تركناه لما غادرته رماحنا ... ولم يبق منـه غير عين يديرها
وقال قيس بن الخطيم:
ثأرت عديا والخطيم فلم أضع ... وصية أشياخ جعلت إزاءها
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
ملكت بها كفي فانـهرت فتقها ... يرى قائما من دونـها ما وراءها
يهون علي أن ترد جراحها ... عيون الأواسي إذ حمدت بلاءها
وكنت امرءا لا أسمع الدهر سبة ... أسب بها إلا كشفت غطاءها
متى يأت هذا الدهر لا يبق حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
وذكروا أن معاوية ركب فرسه عازما للهرب. قال: فذكرت أبياتا لعمرو ابن الإطنابة فوقفت وهي قوله:
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
(1/200)
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
وقال كعب بن مالك:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها إذا لم تلحق
ما حل بالأعداء مثل لقائنا ... يوم النجاح ويومنا بالخندق
وقال مالك بن عوف النصري:
وإذا شكا مـهري إلي حرارة ... عند اختلاف الطعن قلت له اقدم
إني بنفسي في الحروب لتاجر ... تلك التجارة لا انتقاد الدرهم
وقال ربيعة بن مقروم الضبي:
ولقد شـهدت الخيل يوم طرادها ... بسليم أوظفة القوائم هيكل
ودعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل
وقال سعد بن ناشب:
سأغسل عني العار بالسيف جالبا ... علي قضاء الله ما كان جالبا
وأذهل عن داري وأجعل هدمـها ... لعرضي من نطق المذمة حاجبا
ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت ... يميني بإدراك الذي كنت طالبا
فإن تهدموا بالغدر داري فإنـها ... تراث كريم ما يبالي العواقبا
أخي غمرات لا يزيد على الذي ... يهم بـه من مقطع الأمر صاحبا
إذا هم لم تردع عزيمة همـه ... ولم يأت ما يأتي من الأمر هائبا
إذا هم ألقى بين عينيه عزمـه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا
وقال أيضا:
وإن أسيافنا بيض مـهندة ... بتر لآثارها في هامـهم جدد
وإن هويتم سللناها وقد غبرت ... دهرا وهام بني بكر لها غمد
وقال علي بن محمد العلوي:
وإنا لتصبح أسيافنا ... إذا ما انتصبن بيوم سفوك
منابرهن بطون الأكف ... وإغمادهن رؤوس الملوك
وقال جعفر بن علبه الحارثي:
إذا ما ابتدرنا مأزقا فرجت لنا ... بأيماننا بيض جلتها الصياقل
لهم صدر سيفي يوم صحراء سحبل ... ولي منـه ما ضمت عليه الأنامل
ولم ندر إن جضنا من الموت جيضة ... متى العمر باق والمدى متطاول
وقال أيضا:
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
نقاسمـهم أسيافنا شر قسمة ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها
وقال موسى بن جابر الحنفي:
ولما نأت عنا العشيرة كلها ... أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر
فما أسلمتنا عند يوم كريهة ... ولا نحن أغضبنا الجفون على وتر
وقال أيضا:
وإنا لوقافون بالثغرة التي ... يخاف رداها والنفوس تطلع
وإنا لنعطي المشرفية حقها ... فتقطع في أيماننا وتقطع
وقال الراعي:
وللحق فينا خصلتان فمنـهما ... ذلول وأخرى صعبة للمظالم
وإنا لقوم نشتري بنفوسنا ... ديار المنايا رغبة في المكارم
وقال الراعي:
يمسي ضجيع خريدة ومضاجعي ... عضب رقيق الشفرتين حسام
والحرب حرفتنا وبئست حرفة ... إلا لمن هو في الوغى مقدام
نعري السيوف فلا تزال عرية ... حتى تكون جفونـهن إلهام
والموت يسبقنا إلى أعدائنا ... تهفو بـه الرايات والأعلام
وقال آخر:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي بقاء مثل أن أتقدما
إذا المرء لم يخش المكاره أوشكت ... حبال الهوينى بالقنا أن تجذما
وقال آخر:
فلا توعدونا بالمناصل إننا ... حظينا وأدركنا المنى بالمناصل
قديما ضربنا الدارعين وأنتم ... مشاغيل في تصريف ماء الجداول
وقال معبد بن علقمة:
فقل لزهير إن شتمت سراتنا ... فلسنا بشتامين للمتشتم
ولكننا نأبى الظلام ونعتصي ... بكل رقيق الشفرتين مصمم
وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتشتم
وقال أبو عطاء السندي:
وفارس في غمار الموت منغمس ... إذا تألى على مكروهه صدقا
غشيته وهو في جأواء باسلة ... عضبا أصاب سواد القلب فانفلقا
بضربة لم تكن مني مخالسة ... ولا تعجلتها جبنا ولا فرقا
وقال آخر:
(1/201)
يقول أخي لا تنتضي السيف واغتنم ... من الليث عنا بالطريق تعرضا
فقلت وقد سد الطريق بوجهه ... وقابلني وجها من الليث أعرضا
أموت وسيفي مغمد في قرابه ... ويوجد بعدي مغمدا غير منتضى
فلم طال حملي نصله وقرابه ... إذا أنا لم أضرب بـه من تعرضا
وقال عبد العزيز بن أرطاة الكلابي:
فلم ولدتني أم عمرو وشددت ... علي حذار الموت خيط التمائم
إذا أنا لم أخلف لها من رجالها ... رجالا ولم أدفع ظلامة ظالم
قال علي بن يحيى الأميني:
لقد طال حملي الرمح حتى كأنـه ... على فرسي غصن من الدوح نابت
يطول لساني في العشيرة مصلحا ... على أنـه يوم الكريهة صامت
أنشدني محمد بن الخطاب الكلابي:
دع الهوى والهجر في النار ... وكل بكاء على الدار
ما الفخر إلا للكريم الوفي ... في جحفل للموت جرار
والنار لا العار فكن سيدا ... فر من العار إلى النار
قال أبو الحسن يحيى بن عمر العلوي يوم قتل:
هوان الحياة وهول الممات ... وكلا أراه طعاما وبيلا
فألا يكن غير إحداهما ... فسيروا إلى الموت سيرا جميلا
ولا تهلكوا وبكم منة ... كفى بالحوادث للمرء غولا
قال علي بن محمد العلوي:
إذا اللئيم مط حاجبيه ... وذاد عن حريم درهميه
فأقذف عنان اللؤم في يديه ... وأغد إلى السيف وشفرتيه
فاستنزل الرزق بمضربيه ... إن قعد الدهر فقم عليه
ولعلي أيضا:
قلبي نظير الجبل الصعب ... وهمتي أوسع من قلبي
فاستخر الله وخذ مرهفا ... وافتك بأهل الشرق والغرب
ولا تمت إن حضرت ميتة ... حتى تميت السيف بالضرب
الباب السابع والسبعون
ذكر
ما للشعراء في التحذير والإغراء
حدثني إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: حدثنا إبراهيم بن بشار قال: حدثنا سفيان بن عمر بن دينار، وأبو أيوب عن عكرمة وداود بن سابور وابن جريج عن مجاهد قالا: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلف من خزاعة فذكر صدرا من خبر فتح مكة فيه، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كداء، وقال: اللهم اضرب على أسماعهم وعلى أبصارهم فلا يشعرون بنا حتى نـهجم عليهم. فأنشأ حسان بن ثابت الأنصاري يقول:
عدمتم خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء
تظل جيادنا متمطرات ... تلطمـهن بالخمر النساء
قال سفيان: فلقد كانت المرأة ترد وجه الفرس بخمارها عن بابها.
قال عدي بن زيد العبادي يحرض ابنـه على من حبسه:
ألا هبلتك أمك عمرو بعدي ... أتقعد لا تريم ولا تصول
ألم يحزنك أن أباك عان ... وأنت مغيب غالتك غول
تغنيك ابنة القين بن جسر ... وفي كلب وتضحكك الشمول
فلو كنت الأسير ولا تكنـه ... إذا علمت معد ما أقول
فإن أهلك فقد أبليت قومي ... بلاء كله حسن جميل
وقال لقيط بن معبد الأيادي:
يا قوم إن لكم من إرث والدكم ... مجدا قد أشفقت أن يودي وينقطعا
ما لي أراكم نياما في بلهنية ... وقد ترون شـهاب الحرب قد لمعا
ألا تخافون قوما لا أبا لكم ... أمسوا لديكم كأرسال الدبا شرعا
لا تجمعوا المال للأعداء إنـهم ... إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا
ماذا يرد عليكم عز أولكم ... إن ضاع آخره أو ذل فاتضعا
قال أبو طالب:
خذوا حظكم من سلمنا إن حربنا ... إذا ضرستنا الحرب نار تسعر
وإنا وإياكم على كل حالة ... كمثلان بل أنتم إلى الصلح أفقر
وله أيضا:
كذبتم وبيت الله يقتل أحمد ... ولما نناضل دونـه ونقاتل
ونسلمـه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
قال النابغة الجعدي:
فأبلغ عقالا إن غاية داحس ... بكفيك فاستأخر بها أو تقدم
تجير علينا وائل بدمائنا ... كأنك مما نال أشياعنا عمي
(1/202)
فإن كليبا كان أكثر ناظرا ... وأيسر جرما منك ضرج بالدم
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم
وقال زفر بن الحارث:
أفي الحكم إما بحدل وابن بحدل ... فيحيا وأما ابن الزبير فيقتل
كذبتم وبيت الله لا تقتلونـه ... ولما يكن يوم أغر محجل
ولما يكن للمشرفية فوقكم ... شعاع كقرن الشمس حين ترحل
وقال الأشتر:
بقيت وفري وانحرفت عن العلى ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن حرب غارة ... لم تخل يوما من نـهاب نفوس
خيلا دراكا كالسعالى شزبا ... تعدو ببيض في الكريهة شوس
حمي الحديد عليهم فكأنـهم ... لمعان برق أو بريق شموس
وقال الفضل بن العباس:
مـهلا بني عمنا عن نحت أثلتنا ... مـهلا بني عمنا مـهلا موالينا
الله يعلم أنا لا نحبكم ... ولا نلومكم ألا تحبونا
وقال آخر:
لا تنصروا اللات إن الله مـهلكها ... وكيف ينصركم من ليس ينتصر
إن الرسول متى يحلل بساحتكم ... يظعن وليس بها من أهلها بشر
قال يزيد بن الحكم ليزيد بن المـهلب:
أبا خالد قد هجت حربا مريرة ... وقد شمرت حرب عوان فشمر
فإن بني مروان قد زال ملكهم ... فإن كنت لم تشعر بذلك فأشعر
فقال: ما شعرت. فقال:
فعش ملكا أو مت كريما وإن تمت ... وسيفك مشـهور بكفك تعذر
قال الأخطل:
بني أمية إني ناصح لكم ... فلا يبيتن فيكم آمنا زفر
مفترشا كافتراش الكلب كلكله ... لشدة كائن فيها له جزر
قال عطية الكلبي:
يا ثابت بن نعيم هل بكم ثور ... أم بعد عامك هذا تطلب الإحن
كم من أخ لك أو مولى فجعت بـه ... من الوقيعة لم ينشر له كفن
ومن يمانية بيضاء موجعة ... ما إن يسوغ لها ماء ولا لبن
أنائم أنت أم مغض على مضض ... كلا وأنت على الأحساب تؤتمن
قال محرز بن المكعبر:
أبلغ عديا حيث صارت بها النوى ... فليس لدهر الطالبين فناء
كسالى إذا لاقيتهم غير منطق ... يلهى بـه المحروب وهو عناء
وإني لأرجوكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء
أخبر من لاقيت إن قد وفيتم ... ولو شئت قال المخبرون أساءوا
فهلا سعيتم سعي أسرة مازن ... وهل كفلائي في الحروب سواء
لهم أذرع باد نواشر لحمـها ... وبعض الرجال في الحروب غثاء
كأن دنانيرا على قسماتهم ... وإن كان قد شف الوجوه لقاء
قال أوس بن بكر:
عصاني قومي والرشاد الذي بـه ... أمرت ومن يعص المحرب يندم
فصبرا بني بكر على الموت إنني ... أرى عارضا ينـهل بالموت والدم
ولا تجزعوا مما جنته أكفكم ... ولا تندموا ماذا يحين التندم
أقيموا صدور الخيل للموت ساعة ... وموتوا كراما لا تبوؤا بمأثم
قال إسماعيل بن عبد الله أبو مريم يحذر بني أمية من بني العباس:
أرى خلل الرماد وميض جمر ... أحاذر أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام
فإن لم تطفئوها تجن حربا ... مشمرة يشيب لها الغلام
نأيتم عن بلاد عز فيها ... لئام الناس واهتضم الكرام
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
قال سديف يحرض المنصور:
اقصهم أيها الخليفة واقطع ... عنك بالسيف شأفة الأرجاس
خوفها أظهر المودة منـهم ... وبها منكم كحد المواسي
فلقد ساءني وساء سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي
قال أبو عاصم الأسلمي يحرض بني العباس على بني أمية:
إياكم أن يقول الناس قد قدروا ... عليهم ثم ما ضروا ولا نفعوا
إياكم أن تلينوا عند ذلهم ... فذلك الذل فيه الصاب والسلع
كانوا عداة فلما شب جمعهم ... منوا إليك بالأرحام التي قطعوا
(1/203)
أليس في مائتي عام لكم عبر ... يسقونكم جرعا من بعدها جرع
هيهات لا بد أن يوفوا بصاعهم ... صاعا وأن يحصدوا غير الذي زرعوا
وقال آخر:
لا تقبلوا عقلا وأموا بغارة ... إلى عبد شمس بين دومة فالهضب
وهزوا صدور المشرفي كأنما ... يقعن بهام القوم في حنظل رطب
قال طريح بن إسماعيل:
لا تأمنن امرءا أسلمت مـهجته ... غيظا وإن قلت أن الجرح يندمل
واقبل جميل الذي يبدي وجازيه ... وليحرسنك من أفعاله الوجل
وقال آخر:
لا أصلح الله حالي إن أمرتكم ... بالصلح حتى تصيبوا آل شداد
قوم أصابوكم في غير مظلمة ... إلا لقيل وقال الظالم العادي
أو تجعلوا مضر الحمراء دونـهم ... أو تخرجوهم من أحداد وأحداد
حتى يقال لواد كان مسكنـهم ... قد كنت تسكن حينا أيها الوادي
وقال آخر:
ظلمتم فاصبروا للظلم إنا ... سنصبر إنـها الحسب الكريم
وشر الجازعين إذا أصيبت ... قوادم ريشـه الجزع الظلوم
وكنا قاعدين أقمتمونا ... على حقد فقد قمنا فقوموا
قال آخر:
أتظن يا إدريس أنك مفلت ... كيد ابن أغلب أو يقيك فرار
فليدركنك أو تحل ببلدة ... لا يهتدي فيها إليك نـهار
إن السيوف إذا انتضاها سخطه ... طالت وتقصر دونـها الأعمار
ملك كأن الموت يتبع قوله ... حتى يقال تطيعه الأقدار
قال آخر:
وأقدم على الأمر الذي إن تلاقه ... يرحك بموت أو يدانيك من ظفر
فما قدم الأقدام موتا مؤخرا ... ولا يدفع التأخير ما قدم الحذر
قال رويشد الطائي:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا ... أمرا ينجيكم إني أنا الموت
إن تذنبوا ثم لا يعتب سراتكم ... فما علي بذنب منكم فوت
قال البحتري:
نـهيتك عن تعرض عرض حر ... فإن الذم من شأن الذميم
وقلت توق محتملا بودي ... على الأضعان بالحلم الكريم
فما خرق السفيه وإن تعدى ... بأبلغ فيك من رفق الحليم
متى أخرجت ذا كرم تخطى ... إليك ببعض أخلاق اللئيم
ومما يدخل في باب التهاون بالتوعيد والاحتقار بالإنذار والتهدد ما بلغنا أن عبد الله بن العباس كان يتمثل إذا رأى عبد الله بن الزبير به:
أطل حمل الشناءة لي وبغضي ... بجهدك وانظرن من ذا تضير
فما بيديك خير أرتجيه ... وغير صدودك الخطب الكبير
إذا أبصرتني أعرضت عني ... كأن الشمس من قلبي تدور
قال الأعشى في نحو ذلك:
يزيد بغض الطرف دوني كأنما ... زوى بين عينيه علي المحاجم
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفك راغم
قال آخر:
وإذا قلت ويك للكلب وأخسأ ... لحظتني عيناك لحظة تهمـه
أترى أنني حسبتك كلبا ... أنت عندي من أبعد الناس همـه
وفي نحوه يقول جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع
وفي مثله:
أو كلما طن الذباب زجرته ... إن الذباب إذا على كريم
وفي مثله:
نبئت كلبا هاب شتمي له ... ينبحني من موضع نائي
لو كنت من شيء هجوناك أو ... نثبت للسامع والرائي
فعد عن شتمي فإني امرؤ ... حلمني قلة أكفائي
قال آخر:
عادات طي في بني أسد ... ري القنا وخضاب كل حسام
لا تكثرن جزعا فإني واثق ... برماحنا وعواقب الأيام
فلو لم نعرف قبيلة هذا القائل، ومقصده من غير شعره لم ندر أطيئ المـهجوون أم هم الممدحون، وكذلك الحال في بني أسد.
قال آخر:
وما لي ذنب عند قيس علمته ... سوى أنني من رهط بكر بن وائل
من الوائليين الذين سيوفهم ... مجردة في كل حق وباطل
قال آخر:
(1/204)
رويد بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلي على سفوان
تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى ... إذا الخيل جالت في القنا المتداني
تلاقوا جيادا تعرفوا كيف صبركم ... على ما جنت فيكم يد الحدثان
مقاديم وصالون في الروع خطوهم ... بكل رقيق الشفرتين يمان
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان
قال أبو علي البصير:
لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعي الهشيم
وفي نحو ذلك:
خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد
قال الأخطل لشقيق بن ثور:
وما جذع سوء خرق السوس جوفه ... لما حملته وائل بمطيق
فقال شقيق: يا أبا مالك ما تحسن أن تهجو، ولا تمدح. أردت أن تهجوني فمدحتني، وزدتني ما لم أطمع فيه من بني تغلب خاصة فجعلت وائل كلها.
قال مفروق بن عمرو الشيباني:
ولرب أبطال لقيت بمثلهم ... فسقيتهم كأس الردى وسقيت
فلأطلبن المجد غير مقصر ... إن مت مت وإن حييت حييت
قال زفر بن الحارث:
وكنا حسبنا كل سوداء تمرة ... ليالي لاقينا جذام وحميرا
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانـه أن تكسرا
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنـهم كانوا على الموت أصبرا
قال عبد الوهاب بن الصباح:
أراك في العسر تجزيني وفي العدم ... وفي الحديث من الأيام والقدم
وقست حالك في الفقر القديم بما ... أصبحت في ظلمـه من واسع النعم
فما رأيتك في حال تكون بها ... أدنى إلى كل خير منك في العدم
فلا عدمت وإن لم تهو منزلة ... تدنيك حالتها من صالح الشيم
وبلغنا أن الزبرقان بن بدر استعدى عمر بن الخطاب على الحطيئة فقال: إنـه قد هجاني. قال: وما قال لك؟ قال:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فقال عمر: أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا؟ قال: لا والله لولا الإسلام لأنكرتني. قال: ما أعلمـه هجاك، ولكن أدعو ابن القريعة. فلما جاءه حسان. قال له عمر: أهجاه؟ قال: لا. ولكنـه سلح عليه.. فقال عمر للحطيئة: لأحبسنك أو لتكفن عن إعراض المسلمين. قال أمير المؤمنين: لكل مقام مقال. قال: وإنك لتهددني فحبسه. فكتب إليه من الحبس:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فارحم عليك سلام الله يا عمر
نفسي فداؤك كم بيني وبينـهم ... من عرض داوية يعمى لها الخبر
فلما قرأها عمر رق له، فخلى سبيله. وبيت الحطيئة وإن كان غيره أشد إفصاحا بالهجاء منـه فإن معه ما يوضح عن مراد صاحبه ويزيل توهم المدح فيه وهو:
ما كان ذنب بغيض أن رأى رجلا ... ذا حاجة عاش في مستوعر شاس
ملوا قراه وهزته كلابهم ... وجرحوه بأنياب وأضراس
لما بدا لي منكم خبث أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكم آسي
أزمعت يأسا مبينا من نوالكم ... ولن ترى طاردا للحر كالياس
وروي أن عمر بن الخطاب رحمـه الله، أنـه لما سمع قول النجاشي في بني العجلان:
إذا الله عادى أهل لؤم ودقة ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
قال: يسرني أن ابن الخطاب كذلك، فلما سمع:
ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منـهل
قال: ما أحب كل هذه الذلة.
ومع هذين البيتين ما يوضح أنـها هجاء صحيح غير مشبه لشيء من المديح مع البيت الأول وهو قوله:
أولئك أخوال اليتيم وأسرة ... الهجين ورهط الخائن المتبدل
تعاف الكلاب الضاريات لحومـهم ... ويأكلن من كلب وعوف ونـهشل
وما سمي العجلان إلا لقولهم ... خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
قال رجل من بني العنبر:
(1/205)
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذا لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة أن ذو لوثة لانا
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... لم يرهبوه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا
قال آخر:
عند الملوك مصائر ومنافع ... وأرى البرامك لا تضر وتنفع
وإذ نكرت من امرئ أعرافه ... وطباعه فانظر إلى ما يصنع
قال المثلم بن رياح بن ظالم:
تصيح الردينيات فينا وفيكم ... صياح بنات الماء أصبحن جوعا
خلطنا البيوت بالبيوت فأصبحوا ... بني عمنا من يرمـهم يرمنا معا
قال آخر:
بكره سراتنا يا آل عمرو ... نعاديكم بمرهفة النصال
لها لون من الهامات كاب ... وإن كانت تحادث بالصقال
نعديهن يوم الروع عنكم ... وإن كانت مثلمة النصال
ونبكي حين نذكركم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي
قال القتال الكلابي:
نشدت زيادا والمقامة بيننا ... وذكرته أرحام سعد وهيثم
فلما رأيت أنـه غير منته ... أملت له كفي بلدن مقوم
فلما رأيت أنني قد قتلته ... ندمت عليه أي ساعة مندم
قال قيس بن زهير:
شفيت النفس من حمل بن بدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني
فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناني
قال الشميذر الحارثي:
بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدما ... دفنتم بصحراء الغمير القوافيا
فليس كمن كنتم تصيبون سلمة ... فيقبل ضيم أو يحكم قاضيا
ولكن حكم السيف فيكم مسلط ... فيرضى إذا ما أصبح السيف راضيا
وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا ... بني عمنا لو كان أمرا مدانيا
فإن قلتم أنا ظلمنا فلم نكن ... ظلمنا ولكنا أسأنا التقاضيا
قال البحتري:
أسأت لأخوالي ربيعة إذ عفت ... مصانعها منـها وأقوت ربوعها
بكرهي إن كانت خلاء ديارها ... ووحشا مغانيها وشتى جميعها
إذا اقترفوا عن وقعة جمعتهم ... لأخرى دماء ما يطل نجيعها
تذم الفتاة الرود شيمة زوجها ... إذا بات دون الثأر وهو ضجيعها
حمية شغب جاهلي وعزة ... كليبية أعيا الرجال خضوعها
وفرسان هيجاء تجيش صدورها ... بأحقادها حتى تضيق ذروعها
نقتل من وتر أعز نفوسها ... عليها بأيدي ما تكاد تطيعها
إذا احتربت يوما تعاصت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها
شواجر أرماح تقطع بينـهم ... شواجر أرواح كلوم قطوعها
قال أيضا:
فضل الخلائف بالخلافة واقف ... في الرتبة العليا وفضلك أفضل
أوفيت عاشرهم فإن ندبوا إلى ... كرم وإحسان فأنت الأول
فهذا إن شاء إنسان يصير بـه إلى نـهاية المدح، وشاء آخر أن يصرفه إلى غاية الذم، وجد كل امرئ منـهم مقالا. أي مديح أبلغ من أن يكون ماضي من الخلفاء دون الممدوح بهذا القول. وأي ذم أوكد حجة على المرء من تشريفه على آبائه وأجداده والأخبار بأنـه نجم من بينـهم، مخالف في السؤدد لجماعتهم. وهذا النوع من الحلم غير مشاكل لما قدمناه في الباب المتقدم، لأن ذلك الحلم إنما وقع من فاعله رغبة منـه في المكارم. وهذا الحلم إنما وقع احتقارا للمخاصم، وكلاهما جميل من فاعله إذا كان ذلك يدل على كرم الطبع، وهذا يدل على جلالة القدر.
الباب الثامن والسبعون
ذكر
ما جاء في صفات البحر والفلوات
قال:
ألا هل للهموم من انفراج ... وهل لي من ركوب البحر ناج
أكل عشية زوراء تهوي ... بنا في مظلم الغمرات ساجي
(1/206)
كأن قواذف التيار منـها ... نعاج ترتمين إلى نعاج
يشق الماء كلكلها ملحا ... على سح من الملح الأجاج
قال أعرابي أغراه الأسود بن بلال في البحر:
أقول وقد راح السفين ملجما ... وقد بعدت بعد التقرب صور
وقد عصفت للموج ريح اضطرابه ... وللبحر من تحت السفين هدير
ألا ليت أني والعطاء صعالك ... وحظي حظوظ في الزمام وكور
فلله رأي قادني لسفينة ... وأخضر موار السراب يمور
ترى متنـه سهلا إذا الريح أقلعت ... وإن عصفت فالسهل منـه وعور
فيابن بلال للضلال دعوتني ... وما كان مثلي في الضلال يسير
لئن وقعت رجلاي في الأرض مرة ... وكان لأصحاب السفين كرور
وسلمت من موج كأن متونـه ... حراء بدت أركانـه وثبير
ليعرض اسمي عند ذي العرض خلفة ... وذلك إن حاض الإياب يسير
وقال أبو الشيص:
وبحر يحار الطرف فيه قطعته ... بمـهنوءة في غير عر ولا حرب
مقيلة لا تشتكي الأين والوجا ... ولا تشتكي عض النسوع ولا الدأب
يشق حباب الماء سرعة جريها ... إذا ما تفرى عن مناكبها الحبب
إذا اعتلجت والريح في بطن لجة ... رأيت عجاج الموت من خوفها يثب
ترامى بها الخلجان من كل جانب ... إلى متن مغبر المسافة منجذب
قال أحمد بن أبي طاهر:
إلى أبي أحمد أعملت راحلتي ... لا تشتكي الأين من حل ولا رحل
تسري بملتطم الأمواج تحسبه ... من هوله جبلا يعلو على جبل
كأن راكبها إذ جد مرتحلا ... بالسير منـها مقيم غير مرتحل
لجامـها في يد النوتي من دبر ... مقوم زيغها والميل من قبل
ما زال سائقها يجري على مـهل ... جريا يفوت اجتهاد الخيل والإبل
حتى تناهت إلى حيث انتهى شرف ... الدنيا وأشرف باغيها على الأمل
وله أيضا:
مخضرمة الجنبين صادقة السرى ... يراقب فيها الركب من لا يراقبه
تكاد نفوس القوم تجري بجريها ... إذا غالبت من موجها ما تغالبه
نصف حباب الماء عن جنباتها ... إذا البحر جاشت بالسفين غواربه
قال أبو بكر: هذه بلغة فيما جاء في الشعر من صفات المراكب والبحار، ولم نمل في ذلك إلى الإطالة لئلا يضيق الباب عما يحتاج إليه وإلى ذكره من صفات المفاوز، لأن شعر العرب بصفات البوادي والقفار أحذق منـهم بوصف البحار والسفائن. إذ بالفلوات يولدون، وفي طرقها يسلكون ثم نحن الآن مبتدئون بإتمام الباب بما يحضر من صفات البوادي والفلوات يتهيأ ذلك إذا لم نتجاوز العدد الذي شرطناه إلا قليلا من كثير، ومن كان مقصده في هذا الباب التذكرة قنع بالسير.
قال المتلمس الضبعي:
كم دون مية من داوية قذف ... ومن فلاة بها تستودع العيس
ومن ذرى علم ناء مسافته ... كأنـه في حباب الماء مغموس
جاوزته بأمون ذات معجمة ... تنجو بكلكلها والرأس معكوس
وقال امرؤ القيس:
وداوية لا يهتدى لفلاتها ... بعرفان أعلام ولا ضوء كوكب
تلافيتها والبوم يدعو بها الصدى ... وقد ألبست إفراطها ثني غيهب
بمجفرة جسر كأن قتودها ... على أبلق الكشحين ليس بمغرب
وله أيضا:
فدعها وسل الهم عنك بجسرة ... ذمول إذا صام النـهار وهجرا
تقطع غيطانا كأن متونـها ... إذا أظهرت تكسى ملاء منشرا
قال الأعشى:
رب خرق من دونـها يخرس السف ... ر وميل يفضي إلى أميال
وسقاء يولي على تأق المل ... ء وسير ومستقى أوشال
وادلاج بعد المنام وتهجي ... ر وقف وسبسب ورمال
وقليب آجن كأن من الري ... ش بأرجائه سقوط نصال
قد تعاللتها على نكظ المي ... ط وقد خب لامعات الآل
فوق ديمومة تميل بالسف ... ر قفار إلا من الآجال
وإذا ما الضلال خيف وكان ال ... ورد خمسا يرجونـه عن ليال
(1/207)
واستحث المغيرون من القو ... م وكان النطاف ما في العزالي
مرحت حرة كقنطرة الروم ... ي تفري الهجير بالإرقال
تقطع الأمعز المكوكب وخدا ... بنواج سريعة الإيغال
وله أيضا:
وجزور أيسار دعوت إلى الندى ... ونياط مقفرة أخاف ضلالها
يهماء مقفرة رفعت لعرضها ... طرفي لأقدر بينـها أميالها
بجلالة سرح كأن بغرزها ... هرا إذا انتعل المطي ظلالها
وله أيضا:
ويهماء قفر تخرج العين وسطها ... وتلقى بها بيض النعام ترائكا
يقول بها ذو قوة القوم إذ دنا ... لصاحبه إذ خاف منـها المـهالكا
لك الويل أفش الطرف بالعين حولنا ... على حذر واستبق ما في سقائكا
وخرق مخوف قد قطعت بجسرة ... إذا الجبس أعيي أن يروم المسالكا
قال المرار الفقعسي:
إذا نظر القوم ما ميلها ... رأى القوم دوية كالسماء
كأن قلوب أدلائها ... معلقة بقرون الظباء
يظل الشجاع الشديد الجنان ... محافظة معصما بالدعاء
إذا هو أنكر أسماءها ... وغنى وحق له بالغناء
وخلى الركاب وأهوالها ... وأسلمـهن بتيه مواء
له نظرتان فمرفوعة ... وأخرى تلاحظ ما في السقاء
وثالثة بعد طول الص ... مات إلي وفي صوته كالبكاء
فقلت التزم عند ظهر القعود ... جزى الله مثلك شر الجزاء
قال الراعي:
وكم جشمنا إليكم من مؤدية ... كأن أعلامـها في آلها القزع
حماء غبراء يخشى المدلجون بها ... زيغ الهداة بأرض أهلها شيع
فإن تجودوا فقد حاولت جودكم ... وإن تضنوا فلا لوم ولا قذع
قال ذو الرمة:
كم دون مية من خرق ومن علم ... كأنـه لامع عريان مسلوب
ومن ملمعة غبراء مظلمة ... سرابها بالشعاف الغبر معصوب
كأن حرباءها في كل هاجرة ... ذو شيبة من رجال الهند مصلوب
قال ابن هرمة:
وهاجرة تنجي عن الصب جاره ... قطعت حشاها بالمغربدة الصهب
إليك ومسود من الليل دامس ... إذا انتزع النوم العمي من الركب
ومما يشاكل هذا في وصف غلبة النوم على السفار قول أبي نواس:
قوم تساقوا على الأكوار بينـهم ... كأس الكرى فانتشى المشفي والساقي
كأن هامـهم والنوم واضعها ... على المناكب لم يعقد بأعناق
قال عمر بن أبي ربيعة:
وماء بموماة دليل أنيسه ... بسابس لم يحدث بها الصيف محضر
به مبتنى للعنكبوت كأنـه ... على شرف الأرحام خام منشر
وردت وما أدري وما بعد موردي ... من الليل أو ما قد مضى منـه أكثر
وطافت بـه مقلاة أرض كأنـها ... إذا التفتت مجنونة حين تنظر
تنازعني حرصا على الماء رأسها ... ومن دون ما تهوى قليب معور
محاولة للورد لولا زمامـها ... وجذبي لها كادت مرارا تكسر
فلما رأيت الصبر منـها وأنني ... ببلدة أرض ليس فيها مقصر
قصرت لها من جانب الحوض مستقى ... صغيرا كقيد الشبر بل هو أصغر
ولا دلو إلا القعب كان رشاؤه ... إلى الماء نسع والجديل المضفر
فسافت دما عافت وما صد شربها ... عن الري مطروق من الماء أكدر
قال:
نأت دار ليلى فشط المزا ... ر فعيناك لا تطعمان الكرى
وأضحت ببغداد في منزل ... له شرفات دوين السما
ومن دونـها بلد نازح ... يجيب بها البوم رجع الصدى
ومن منـهل آجن ماؤه ... شدى لا يعاج بـه قد طمى
وكم دون بيتك من صفصف ... ومن أسد خادر في وغى
ومن حنش لا يجيب الرقا ... ة أرقش ذي حمة كالرشا
الباب التاسع والسبعون
ذكر
ما يختار من القول في صفات الإبل والخيل
أنشدني عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري لزهير بن أبي سلمى:
كأن الرحل منـها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء
(1/208)
أصك مصلم الأذنين أجنى ... له بالسي تنوم وآء
أذلك أم أقب البطن جأب ... عليه من عقيقته عفاء
وقال القطامي:
يمشين رهوا فلا الإعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الإعجاز تتكل
فهن معتدلات والحصى رمض ... والريح ساكنة والظل معتدل
يتبعن سامية العينين يحسبها ... مجنونة وترى ما لا ترى الإبل
وقال كعب بن زهير:
حرف أخوها أبوها من مـهجنة ... وا ا قوداء شمليل
تحفي التراب بأظلاف ثمانية ... بأربع وقعها في الأرض تحليل
ولخلف الأحمر يصف الفرس:
رحب الفروج كأن قنطرة ... حيث التقى في الصلب أضلعه
مستقبل وجه الشمال لها ... زجل على روقيه تقرعه
وكأنما جهدت أليته ... ألا تمس الأرض أربعه
وهذا مأخوذ من قول الأعشى:
ما زلت أرمقهم وآملهم ... حتى أجدوا السير فامتنعوا
بجلالة أجد مداخلة ... ما إن تكاد خفافها تقع
وللحطيئة:
ترى بين لحييها إذا ما ترغمت ... لعابا كبيت العنكبوت الممدد
وتشرب في القعب الصغير وإن تقد ... بمشفرها يوما إلى الليل تنقد
وإن نظرت يوما بمؤخر عينـها ... إلى علم بالغور قالت له ابعد
وللشماخ:
فسل الهم عنك بذات لوث ... عذافرة مضبرة أمون
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
فلعمري ما أنصفها ولا أحسن صحبتها إذ جعل مكافأتها على تبليغها إياه لمنيته أن يفجعها بمـهجتها. ولعمري لأحسن منـه قول الحسن بن هانئ حيث يقول:
أقول لناقتي إذ بلغتني ... لقد أصبحت عندي باليمين
فلم أجعلك للغربان نـهبا ... ولم أقل اشرقي بدم الوتين
قال الراعي:
وذات هباب صموت السرى ... بأعطافها العرق الأصفر
وهي إذا قام في غرزها ... كمثل السفينة أو أوقر
قال ذو الرمة:
تصغي إذا شدها بالرحل جانحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تبب
يعلو الحزون بها عمدا ليتبعها ... شبه الضرار فما يزري بها التعب
لشامة بن الغدير:
كأن يديها إذا أرقلت ... وقد جرن ثم اهتدين السبيلا
يدا سابح خر في غمرة ... قد أدركه الموت إلا قليلا
ولآخر:
إذا بركت خوت على ثفناتها ... مجافية صلبا كقنطرة الجسر
كأن يديها حين تجري صفورها ... طريدان والرجلان طالبتا وتر
تجوب بها الظلماء عين كأنـها ... زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر
تناسى طلاب السامرية إذ نأت ... بأسحج مرقال الضحى قلق الضفر
ومن جيد ما قيل في جياد الخيل قول أبي دؤاد:
وقد أغتدي في بياض الصبا ... ح وإعجاز ليل مولي الذنب
بطرف ينازعني مرسنا ... سلوف المقادة محض النسب
إذا قيد قحم من قاده ... وولى علابيه واجلعب
كظهر الرديني بين الأكف جر ... ى في الأنابيب ثم اضطرب
ومن المختار قول امرئ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
كميت يزل اللبد عن حال متنـه ... كما زلت الصفواء بالمتنزل
على الذيل جياش كأن اهتزامـه ... إذا جاش فيه حميمـه غلي مرجل
مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن الغبار بالكديد المركل
يزل الغلام الخف عن صهواته ... ويلوي بأثواب العنيف المثقل
درير كخذروف الوليد أمره ... تتابع كفيه بخيط موصل
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
ضليع إذا استدبرته سد فرجة ... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل
كأن سراته لدى البيت قائما ... مداك عروس أو صراية حنظل
كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مرجل
قال أبي بن أبي سلمى بن ربيعة بن ريان:
(1/209)
سبوح إذا اعترمت في العنا ... ن مروح ململة كالحجر
ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنـه لم يطر
قال الرقاد بن المنذر الضبي:
إذا المـهرة الشقراء أركب ظهرها ... فشب الإله الحرب بين القبائل
وأوقد نارا بينـهم بضرامـها ... لها وهج للمصطلي غير طائل
فدى لفتى ألقى إلي برأسها ... تلادي وأهلي من طريف وجامل
قال أبو البيداء الأعرابي أو خلف أو ابن جهم المازني:
ألم ترني أغتدي في الصبا ... ح بأجرد كالسيد عبل الشوى
كأن بمنكبه إذ جرى ... جناحا يقلبه في الهوى
طويل الذراعين أطمى الكعو ... ب ناتي الحماتين عاري النسا
له كفل أيد مشرف ... وأعمدة لا تشكى الوجى
له تسعة طلن من بعد أن ... قصرن له تسعة في الشوى
يعني عنقه وخديه وبطنـه وذراعيه وفخذيه وذنبه، هذه كلها يستحب طولها ومما يستحب قصره أربعة: أرساغه ووظيفا يديه وعسيبه وساقاه.
وسبع عرين وسبع كسين ... وخمس رواء وخمس ظما
سبعة عرين: الخدان والجبهة والوجه والقوائم، وسبع كسين: الفخذان وحماتاه ووركاه وحصيرا جنبه.
وسبع غلاظ وسبع رقا ... ق وصهوة عير ومتن خظا
وسبع بعدن وسبع قرب ... ن منا فما فيه عيب يرى
دقيق الثمان عريض الثما ... ن شديد الصفاق شديد المطا
الثمان الدقاق: عرقوباه وقلبه ومنكباه، وأذناه. والثمان العراض: الجبهة والمحزم والصدر والصهوة والفخذان والوظيفان.
وفيه من الطير خمس فمن ... رأى فرسا مثله يقتنى
غرابان فوق قطاة له ... ونسر ويعسوبه قد بدا
جعلنا له من خيار اللقا ... ح خمسا مجاليج كوم الذرى
ويؤثر بالزاد دون العيا ... ل فكل مسير بـه يقتفى
فقاظ صنيعا فلما شتا ... أخذناه بالقود حتى انطوى
قال أنيف بن جبلة الضبي:
أما إذا استقبلته فكأنـه ... في العين جذع من أوال مشذب
وإذا عرضت له استوت أقياده ... وكأنـه مستدبر متصوب
ولعلي بن جبلة:
وأذعر الربرب عن أطفاله ... بأعوجي دلفي المنتهب
كأنـه من مرح العدو بـه ... مستنفر لروعة أو ملتهب
مطرد يرتج من أقطاره ... كالماء جالت فيه ريح فاضطرب
تحسبه أقعد في استقباله ... حتى إذا استدبرته قلت أكب
وهو على إرهافه وطيه ... يقصر عنـه المحزمان واللبب
تقول فيه جنب إذا انتحى ... وهو كمتن القدح ما فيه جنب
يخطو على عوج تناهبن الثرى ... لم تتواكل عن شظى ولا عصب
تحسبها بائنة إذا خطت ... كأنما وظيفه على نكب
يرتابه الصيد فرادينا بـه ... أوابد الوحش فأجدى واكتسب
ينحط في الحرب يباري ظله ... ويعرق الأحقب في شوط الخبب
إذا تبطنا بـه صدفه ... وإن بطنى فوقه العين كذب
لا يبلغ الجهد بـه راكبه ... ويبلغ الرمح بـه حيث طلب
قال آخر:
في كل منبت شعرة من جسمـه ... خط ينمقه الحسام المخذم
ما يدرك الأبصار أدنى جريه ... حتى يفوت الرمح وهو مقدم
وكأنما عقد النجوم بطرفه ... وكأنـه بعرى المجرة ملجم
وللبحتري:
وأغرني الزمن البهيم محجل ... قد رحت منـه على أغر محجل
كالهيكل المبني إلا أنـه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل
تتوهم الجوزاء في أرساغه ... والبدر غرة وجهه المتهلل
هزج الصهيل كأن في نغماته ... نبرات معبد في الثقيل الأول
ملأ العيون فإن بدا أعطيته ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل
وقال أيضا:
وعريض أعلى المتن لو عليته ... بالزئبق المنـهال لم يترجرج
جذلان تحسده الجياد إذا مشى ... عبا بأحسن حلة لم تنسج
خفيت مواقع وطئه فلو أنـه ... يجري برملة عالج لم يرهج
وله أيضا:
(1/210)
أما الجواد فقد بلونا يومـه ... وكفى بيوم مخبرا عن عامـه
جارى الجياد فطار عن أوهامـه ... سبقا وكاد يطير عن أوهامـه
جذلان تلطمـه جوانب غرة ... جاءت مجيء البدر عند تمامـه
واسود ثم صفت لعيني ناظر ... جنباته وأضاء في إظلامـه
يختال في استعراضه ويكب في ... استدباره ويشب في استقدامـه
فكأن فارسه وراء قذاله ... ردف فلست تراه من قدامـه
لانت معاطفه فخيل أنـه ... للخيزران مناشب بعظامـه
وكأن صهلته إذا استغلى بها ... رعد تقعقع في ازدحام غمامـه
الباب الثمانون
ذكر
الوحوش التي تصاد والجوارح التي تصطاد
قال امرؤ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكراتها ... لغيث من الوسمي رائده خال
تحاماه أطراف الرماح تحاميا ... وجاد عليه كل أسحم هطال
بعجلزة قد أترز الغزو لحمـها ... كميت كأنـها هراوة منوال
ذعرت بها سربا نقيا جلوده ... وأكرعه وشي البرود من الخال
فخر لروقيه وأمضيت مقدما ... طوال القرى والروق أخنس ذيال
وعاديت منـه بين ثور ونعجة ... وكان عداء الوحش مني على بال
كأني بفتخاء الجناحين لقوة ... طلوب من العقبان طأطأت شملال
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
وله أيضا:
فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار في ملاء مذيل
فأدبرن كالجزع المفصل بينـه ... بجيد معم في العشيرة مخول
فألحقه بالهاديات ودونـه ... جواحرها في صرة لم تزيل
فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكا ولم ينضح بماء فيغسل
فظل طهاة اللحم من بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل
ورحنا يكاد الطرف يقصر دونـه ... متى ما ترق العين فيه تسهل
فبات عليه سرجه ولجامـه ... وبات بعيني قائما غير مرسل
قال الأخطل:
هل تعرف اليوم من ماوية الطللا ... تحملت أنسه منـه وما احتملا
فما بـه غير موشي أكارعه ... إذا أحس بشخص نابئ مثلا
ما زال في حقف أرطاة يلوذ بها ... إذا أحس مسيلا تحته انتقلا
كأنما القطر مرجان يساقطه ... إذا علا الروق والمتنين والكفلا
يشلي سلوقية غضفا إذا اندفعت ... حاكى جديلة في الآثار أو ثعلا
مكلبين إذا اصطادوا كأنـهم ... يسقونـها بدماء الأيد العسلا
فانصاع كالكوكب الدري جرده ... غيث تقسع عنـه طالما هطلا
كأنـهن وقد سربلن من علق ... يغشين موقد نار يقذف الشعلا
إذا أتاهن مظلوم عكفن بـه ... عكف الفوارس خافوا الدارع البطلا
قال أبو البيداء الأعرابي:
مطوقة كسيت زينة ... بدعوة نوح لها إذ دعا
فلم أر باكية مثلها ... تبكي ودمعتها لا ترى
أضلت فريخا فطافت بـه ... وقد علقته حبال الردى
فلما بدا اليأس منـه بكت ... عليه وماذا يرد البكا
وقد صاده ضرم ملجم ... خفوق الجناح حثيث النجا
وحت بمخلبه قارتا ... على خطمـه من دماء القطا
فآنسن سرب قطا قارب ... جبى منـهل لم تهجه الدلى
وصعد في الجو ثم استدا ... ر طار حثيثا إذا ما انصمى
يبارين وردا فلم يرعو ... ين على ما تذكر أو ما دنا
به رفقة من قطا وارد ... وأخرى صوادر عنـه روا
فملأن أسقية لم تشد ... بخرز وقد شد منـها العرا
فأقعص منـهن كدرية ... ومزق حيزومـها والحشى
فطار وغادر أشباهها ... تطير الحتوف بها والضنا
قال أبو نواس:
سود المآقي صفر الحمالق ... كأنما يصفرن في ملاعق
صرصرة الأقلام في المـهارق ... غاديتها قبل الصباح الفائق
وقال أيضا:
(1/211)
أنعت كلبا أهله في كده ... قد سعدت حدودهم بجده
فكل خير عندهم من عنده ... يظل مولاه له كعبده
يبيت أدنى صاحب من مـهده ... وإن غدا جلله ببرده
تلذ منـه العين حسن قده ... يا لك من كلب نسيج وحده
وقال أيضا:
لما تبدى الصبح من حجابه ... كطلعة الأشمط من جلبابه
هجنا بكلب طال ما هجنا بـه ... ينتسف المقود من جذابه
تراه في الحضر إذا ماها بـه ... يكاد أن يخرج من إهابه
وقال أيضا:
قد أغتدي والصبح مشـهور ... قد طلعت منـه التباشير
بمخطف الأيطل في خطمـه ... طوى وفي شدقيه تأخير
كأنـه سهم إلى غاية ... أو كوكب في الأرض محدودر
رحنا بـه تنفخ أعطافه ... وهو بما أولاه مشكور
وقال أيضا:
قد أغتدي في فلق الصباح ... بمصعم يرجر في سراح
مؤيد بالنصر والنجاح ... فهو كميش ذرب السلاح
يفتر عن مثل شبا الرماح ... يطير في الجو بلا جناح
قال أيضا:
قد أغتدي والشمس في حجابها ... مستورة لم تبد من جلبابها
بفهدة بورك في حلابها ... شقيا لها وللذي غدا بها
كأنما النمرة في أقرابها ... رقم ديابح على أثوابها
فخطفت الكشحين في اضطرابها ... كأنـها القناة في انتصابها
والحية الرقطاء في انسكابها ... وسرعة العقاب في انسيابها
فأبصرت من حيث يممنا بها ... عفر الظباء وهي في أسرابها
فأقبلت تمرح في جذابها ... حتى إذا ما أكثرت رمى بها
فلو ترى الفهدة في التهابها ... في نأيها عنـهن واقترابها
تكاد أن تخرج من إهابها ... فالويل منـهن لمن يصلى بها
قال أيضا:
وقانص محتفز دميم ... كدري لون أغبر شيتم
فلا عن الحيلة بالسؤوم ... أسرع من لحظة طرف بوم
فلا عن الحيلة بالسؤوم ... أسمع من ذي لبدة صميم
إذا اجتلا عالية النميم ... كأنما يلهب من جحيم
الباب الحادي والثمانون
ذكر
ما جاء في الشعر من صفات الخمر
(1/212)
قال أبو بكر: قد أكثر الشعراء المتقدمون والمتأخرون في مدح الخمر وذمـها، وفي وصف طيبها ورقتها، ولم يقل أحد في ذمـها ولا في مدحها إلا دون ما تستحقه هي في هذه الدار من الذم في الغاية، وهي في الدار الآخرة من المدح في النـهاية، فأما فضلها في تلك الدار فيغني عن الإطناب فيه ما ذكره الله جل وعلا في كتابه من تحبيب الجنة بها، وبما شاكلها إلى أوليائه، وأما ذمـها في هذه الدار فإنـها توقع العداوة والبغضاء، وتدعو إلى الإثم والفحشاء، وتشغل عن أداء المفترضات، وتجرئ عن ارتكاب المحرمات. ولو لم يكن في ذمـها غير نـهي الله جل وعز عن شربها لكان مغنيا عن غيره. فكيف وقد بين الله جل وعلا من قبيح أفعالها ما يدعو ذوو التمييز، وإن لم تكن محرمة إلى اجتنابها فلعل بعض الخلفاء أن يغلب على عقله سكرة الأهواء. فيقول كيف تكون محرمة مذمومة وممدوحة، وعينـها واحدة، ولم تأتي الشريعة بتحريمـها. فيقال له: الخمر المذمومة في هذه الدار غير الخمر الممدوحة في تلك الدار، لأن أصحاب تلك الدار لا يصدعون عنـها، ولا ينزفون منـها، وتلك لا توقع العداوة والبغضاء، ولا تصد عن ذكر الله وعن فرضه. وهذه الخمر تفعل جميع ذلك، فلهذه العلل صارت الخمر في الدنيا مذمومة، وفي الآخرة ممدوحة. ولقد أحسن نصيب في قوله، وقد سامـه بعض بني مروان شربها فقال: يا أمير المؤمنين. إنـه لم يدنني منك جمالي، ولا نسبي، وإنما أدناني منك عقلي ولساني. فنشدتك الله أن تدخل علي ما يسلبنيهما فأعفاه حينئذ من شربها. ومما في الخمر من المقابح التي يعتد بها من لا يفهم من المدائح أنـها تنفي الأحزان، وتشجع الجبان، وتسهل على البخلاء ال في جملة الأسخياء. ولو لم يكن في الخمر عيب غير هذا لكفى، لأن الذي توجبه الخمر من هذا الفعل إنما هو بزوال التمييز، ونقصان العقل، فإن جاء في تلك العمرات فعل يشبه أفعال السادات لم يكن فاعله محمودا، ولا كان ذلك الفعل إليه منسوبا، لأنـه يندم عليه، ويعتذر منـه بأن عقله لو كان حاضرا لنـهاه عنـه، وإن جاء في تلك الحال ما يخرج عن حد الاعتدال، وكان ذلك مما يتعذر تلافيه، ويصعب طريق العذر فيه، كما أنـها تشجع الجبناء، وتسمح البخلاء، فإنـها تسفه الحلماء، وتسخف العقلاء، وقد كان صنف من القدماء يتركون الخمر والزنا تكرما، وإن لم يكن ذلك في ملتهم محرما. ولقد أحسن زهير حيث يقول:
غدوت عليه غدوة فوجدته ... قعودا لديه بالصريم عواذله
يفدينـه طورا وطورا يلمنـه ... وأعيا فما يدرين أين مخاتله
فاعرض منـه عن كريم مرزء ... غلوب على الأمر الذي هو فاعله
أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنـه قد يهلك المال نائله
فهذا أحسن من قول طرفة:
أسد غيل فإذا ما شربوا ... وهبوا كل أمون وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
وفي هذا النحو يقول حسان بن ثابت:
نوليها الملامة والمنايا ... إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينـهنـها اللقاء
وهذا قبيح كله لأنـهم صيروا سبب السماحة والشجاعة زوال التمييز والمعرفة. وصاحب هذه الحال والمجنون سواء بمنزلة، لأنـه يأتي الشيء بغير معرفة، وأمثل من هذا قول عنترة:
فإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
وأحسن من هذا قول البحتري:
وما زلت خلا للندامى إذا انتشوا ... وراحوا بدورا يستحثون أنجما
تكرمت من قبل الكؤوس عليهم ... فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرما
ولسنا مع ما ذكرنا من عيبها ندع أن نذكر طرفا من الأشعار المستحسنة في وصفها فإنـها وإن لم تكن موضعا للمدح لما قدمناه من ذمـها، فقد يحسن المصيب في وصفها ضربا من الإحسان، إما لحسن تشبيه، أو لمعنى يخترعه ويعرف بـه كما قال الأعشى:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منـها بها
لكي يعلم الناس أني امرؤ ... أتيت المعيشة من بابها
قال أبو نواس:
(1/213)
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء
قال الأعشى:
إذا قلت غني الشرب قامت بمزهر ... يكاد إذا دارت بـه الكف ينطق
وساق إذا شئنا كميش بمسعر ... وصفراء مرنان إذا ما تصعق
تريك القذى من دونـها وهي فوقه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطق
وقال آخر:
وصرعة مخمور دفعت بقرقف ... وقد صرعتني قبل ذلك قرقف
فقام يداوي صرعتي متعطفا ... وكنت عليه قبلها أتعطف
نموت ونحيا تارة بعد تارة ... وتخلفنا أيدي المدام وتتلف
إذا ما تسلفنا من الكأس سكرة ... تقاضى الكرى منا الذي نتسلف
وقال:
وكأس يكون الماء حين يمسها ... قذى ثم يعلوه بجثمان طائر
إذا دب فيها الماء قارن صعبه ... جموحا عليه سهلة في الحناجر
قال مسلم:
سل ليلة الخيف هل قصرت آخرها ... بالراح قرب نسيم الخرد الغيد
شججتها بلعاب المزن فاعتدلت ... نسجين من بين محلول ومعقود
قال أبو نواس:
قامت بإبريقها والليل معتكر ... فلاح من وجهها في البيت لألاء
فأفرغت من فم الإبريق صافية ... كأنما أخذها للعين إغفاء
رقت من الماء حتى ما يلائمـها ... لطافة وجفا عن شكلها الماء
فلو مزجت بها نورا لمازجها ... حتى تولد أنوار وأضواء
وقد أكثر الشعراء في تفضيل رقة الخمر على رقة الماء، وليس الأمر على ما يقدرونـه، وذلك أن الخمر متولدة من جوهر الماء، ومحال أن يكون جزء من الشيء أرق من كل شيء. ولن يكون بعضه أرق من بعض، والعلة التي دعت إلى توهم الخمر أنـها أرق من الماء هي أن الماء إذا صب عليها تكدر صفاؤه، ونقصت رقتها، وذلك لأن الماء لا يتهيأ للآدميين تخليصه من الكدورة الحالة به، والأجسام الممازجة له، وإن جهدوا بقوتهم في تصفيته كما تصفى أعواد الكرم في اجتذابها إياه إلى ثمارها بلطيف قواها التي ركبها الله عز وجل بحكمته فيها، فهي بتلك اللطافة تجتذب صفوة، وتجفو عن رقة مسالكها كدره، فيخلص لها الماء وحده، فإذا مزجت بعد ذلك بالماء الممزوج بغيره تبين أن الأول أصفى منـه.
قال أبو نواس:
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن عيني ولم أنم
فاسقني البكر التي اختمرت ... بخمار الشيب في الرحم
مع شباب سادة نجب ... أخذوا اللذات عن أمم
فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم
وقال أيضا:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالورد
كأسا إذا انحدرت من حلق شاربها ... أغنتك حمرتها في العين والخد
فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة ... من كف لؤلؤة ممشوقة القد
تسقيك من عينـها خمرا ومن يدها ... خمرا فما لك من سكرين من بد
لي نشوتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت بـه من بينـهم وحدي
قال أيضا:
اسقني يا ابن أذين ... من سلاف الزرجون
عتقت في الدن حتى ... هي في رقة ديني
ولعمري لقد بالغ في الصفة، وإن دينـه لفي نـهاية الرقة، ولقد أحسن في قوله:
وليس للهم إلا شرب صافية ... كأنـها دمعة من عين مـهجور
وإنما تكامل صفاء دمع المـهجور لأنـه لا يكتحل، فدمعه صرف غير متكدر. وقال في نحو ذلك الحسين بن الضحاك:
حتى إذا أسندت في البيت واحتضرت ... عند الشروق ببسامين أكفاء
فضت خواتمـها في نعت واصفها ... عن مثل رقرقة في جفن مرهاء
وقال:
ما زلت أشرب روح الدن في لطف ... وأستقي دمـه من جوف مجروح
حتى صدرت ولي روحان في جسد ... والدن مطرح جسم بلا روح
وقال الطائي:
أفيكم فتى حي فيخبرني عني ... بما شربت ة الراح من ذهني
تورد روح المرء من كل وجهة ... وتدخل فيه كيف شاءت بلا أذن
قال إسحاق الموصلي:
(1/214)
وصافية تغشي العيون رقيقة ... رهينة عام في الدنان وعام
أدرنا بها الكأس الروية موهنا ... من الليل حتى انجاب كل ظلام
فما ذر قرن الشمس حتى كأننا ... من العي نحكي أحمد بن هشام
وقال آخر:
ما العيش إلا في جنون الصبا ... فإن تولى فجنون المدام
راح إذا ما الشيخ والى بها ... خمسا تردى برداء الغلام
قال آخر:
كأن أباريق المدام لديهم ... ظباء بأعلى الرقمتين قيام
وقد شربوا حتى كأن رقابهم ... من اللين لم يخلق لهن عظام
وقال آخر:
وصفراء قبل المزج بيضاء بعده ... كأن شعاع الشمس يلقاك دونـها
ترى العين تستعفيك من لمعانـها ... وتحسر حتى ما تقل جفونـها
وقال أبو نواس:
ترى حيث ما كانت من البيت مشرقا ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا
إذا عب فيها شارب الخمر خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا
قال ديك الجن:
فاصرف بوجهك صرف الماء يومك ذا ... حتى ترى قائما منـها ومنصرفا
فقام مختلفا كالظبي ملتفتا ... والبدر مطلعا والغصن منعطفا
رقت غلالة خديه فلو رميا ... باللحظ أو بالمنى هما بأن يكفا
كأن قافا أديرت فوق وجنته ... واختط كاتبها من فوقها ألفا
فاستل راحا كبيض رافقت جحفا ... خلائقا أو كنار صادفت سعفا
صفراء أو قل ما اصفرت فأنت ترى ... ذوبا من التبر رصوا فوقه صدفا
ولم أزل من ثلاث واثنتين ومن ... خمس وعشر وما استعلى وما لطفا
وأمتري ودق سمطي لؤلؤ برد ... عذب وأرشف ثغرا قط ما رشفا
حتى حسبت أنوشروان من خولي ... وخلت أن نديمي عاشر الخلفا
قال الأخطل:
إذا ما نديمي علني ثم علني ... ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت أجر الذيل حتى كأنني ... عليك أمير المؤمنين أمير
قال الطائي:
صبحته بسلافة صبحتها ... بسلافة الخلطاء والندماء
بمدامة تغدو المنى لكؤوسها ... خولا على السراء والضراء
راح إذا ما الراح كان مطيها ... كانت مطايا الشوق في الأحشاء
صعبت وراض المزج سيئ خلقها ... فتعلمت من حسن خلق الماء
خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلاعب الأفعال بالأسماء
وضعيفة فإذا أصابت فرصة ... قتلت كذلك قدرة الضعفاء
جهمية الأوصاف إلا أنـهم ... قد لقبوها جوهر الأشياء
وقال البحتري:
فاشرب على زهر الرياض يشوبه ... زهر الخدود وزهرة الصهباء
من قهوة تنسي الهموم وتبعث ال ... شوق الذي قد ضل في الأحشاء
يخفي الزجاجة لونـها فكأنـها ... في الكف قائمة بغير إناء
يسقيكها رشأ يكود يروها ... سكري بفترة مقلة حوراء
يسعى بها وبمثلها من طرفه ... عودا وإبداء على الندماء
قال أبو نواس:
تخيرت والنجوم وقف ... لم يتمكن بها المدار
حتى إذا غاب كل ذام ... وخلص السر والنجار
آلت إلى جوهر كطيف ... عيان موجوده ضمار
لا ينزل الليل حيث حلت ... فدهر ها نـهار
حتى لو استودعت سرارا ... لم يخف في ضوئها السرار
كأن في كأسها سرابا ... يجلبه المـهمـه القفار
قال البحتري:
لنا في الدهر آمال طوال ... نرجيها وأعمار قصار
وأهون بالخطوب على خليع ... على اللذات ليس له عذار
فأخر يومـه سكر تجلى ... غيابته وأوله خمار
ويوم بالمطيرة أمطرتنا ... سماء صوب وابلها عقار
أقمنا أكلنا أكل استلاب ... هناك وشربنا شرب بدار
تنازعنا المدامة وهي صرف ... وأعجلنا الطوابخ وهي نار
ولم يك ذاك سخفا غير أني ... رأيت الشرب سخفهم الوقار
(1/215)
رضينا من مخارق وابن خير ... بصوت الأثل إذ متع النـهار
تزعزعه الشمال وقد توافى ... على أنفاسها قطر صغار
غداة دجنة للغيث فيها ... خلال الروض حج واعتمار
كأن الريح والمطر المناجي ... خواطرها عتاب واعتذار
الباب الثاني والثمانون
ذكر
آداب المجالسات وحسن المنادات
حدثنا العباس بن أحمد الدوري قال: حدثنا يحيى بن معين قال: حدثنا حجاج بن محمد الأعور قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي زياد عن هشام بن عروة قال: رأيت ربيعة بن عباد وهو يحدث أبي، وأبي يسأله قال: إن ابن عفان رضي الله عنـه كان أغزانا في غزوة، فمررنا فيها على معاوية، وقد كان وجد علينا في شيء بلغه من أمرنا في غزاتنا تلك، فدخلنا إليه، فجعلنا نعتذر إليه، ونكذب ما بلغه، وجعل يوافقنا على بعض ذلك، ويؤنبنا فيه، ثم قام رجل فقال: أصلح الله الأمير، إنا مكذوب علينا، فلينظر الأمير في أمرنا، فإن كنا أبرياء غفر لنا ذلك، وإن كان لنا ذنب عفاه عنا. فقال معاوية: فكذاك إذا، ثم قال الرجل: إن كنت لم أذنب فلا تظلمنني، وإن كنت ذا ذنب فسوف أتوب، ثم أقبل في وجوه القوم حيث جلس معاوية فقال:
ولا تنس قربان الأمير شفاعة ... لكل امرئ فيما أفاد نصيب
قال: فقبل منا معاوية، وصنع إلينا معروفا.
ومن جيد ما قيل في حسن المساعدة قول دريد بن الصمة وقد أغار وأخوه في نفر من قومـهم على نعم لقيس، فاستاقوها، فلما كانوا في بعض الطريق، ترك عبد الله بن الصمة فقال له أخوه دريد: ليس هذا منزلنا، إن قيسا غير نائمة عن أموالها. فقال: والله لا أبرح حتى آكل وأعلف وأشرب، فبينا هم كذلك إذ رأوا غبرة، فقالوا لرقيبهم: ما ترى؟ فقال: أرى خيلا كالعقبان، عليها فوارس كالصبيان، فقال: تلك فزارة ولا بأس. ثم رأوا غبرة فقالوا: ما ترى؟ فقال: أرى خيلا كأن قوائمـها تنقلع من الصخر، قال: تلك عبس والموت. فلم يلبثوا أن خالطتهم الخيل، فصاح صائح: أودى فارس، فنظروا فإذا هو عبد الله بن الصمة، فقال دريد في ذلك شعرا طويلا، قد ذكرنا طرفا منـه في بعض أبواب المراثي، ومع ذلك يقول في مساعدته أخاه على الرأي الذي لا يرضاه:
أمرتهم أمري بمنقطع اللوى ... فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منـهم وقد أرى ... ضلالتهم وأنني غير مـهتدي
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
قال آخر:
أخوك الذي إن قمت بالسيف عامدا ... لتضربه لم يستغشك في غد
ولو جئت تبغي كفه لتبينـها ... لبادر إشفاقا عليك من الردي
يرى أنـه في الود وان مقصر ... على أنـه قد زاد فيه على الجهد
وفيما بلغنا أن العباس بن عبد المطلب أوصى ابنـه عبد الله حين اصطفاه عمر بن الخطاب أن قال له: يا بني. إن هذا الرجل قد قدمك على غيرك، فاحفظ عني ثلاثا: لا تجري عليك كذبا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا تفشين له سرا.
ومن جيد ما قيل في السر قول النابغة:
لعمرك إن وشاة الرجا ... ل لا يتركون أديما صحيحا
فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
قال آخر:
وفتيان صدق لست أطلع بعضهم ... على سر بعض غير أني جماعها
يبيتون شتى في البلاد وسرهم ... إلى صخرة صماء أعيا انصداعها
قال آخر:
سأكتمـه سري وأحفظ سره ... ولا غرني أني عليه كريم
حلين فينسى أو جهول يضيعه ... وما الناس إلا جاهل وحليم
قال آخر:
لا تسألي الناس ما مالي وما ورقي ... وسائلي الناس ما وقعي وما خلقي
أعطي السنان غداة الروع حصته ... وعامل الرمح أرويه من العلق
وأطعن الطعنة النجلاء عن عرض ... وأحفظ السر فيه ضربة العنق
قال قيس بن الخطيم:
وإن ضيع الأقوام سرا فإنني ... كتوم لأسرار العشير أمين
يكون لهم عندي إذا ما ضمنته ... مكان بسوداء الفؤاد كمين
(1/216)
سلي من نديمي في الندامى ومألفي ... ومن هو لي عند الصفاء خدين
قال آخر:
خير إخوانك المشارك في المر ... وأين الشريك في المر أينا
ذاك مثل العقبان إن مسه الن ... ار جلاه لغلام وازداد زينا
لا يني شاهدا بسرك ما ... دمت وإن غبت كان أذنا وعينا
وقال:
وكنت إذا الصديق أراد غيظي ... وأشرقني على حنق بريقي
غفرت ذنوبه وكظمت غيظي ... مخافة أن أكون بلا صديق
وقال آخر:
وأخوك الذي إن سرك الآمر سره ... وإن ناب أمر ظل وهو حزين
يقرب من قربت من ذي مودة ... ويقصي الذي أقصيته ويهين
وقال آخر:
علي لإخواني رقيب من الصفا ... تبيد الليالي وهو ليس يبيد
يذكرنيهم في مغيب ومسهد ... فسيان منـهم غائب وشـهيد
وإني لأستحيي أخي أن أبره ... قريبا وأن أجفوه وهو بعيد
قال إبراهيم ابن العباس:
أميل مع الصديق على ابن أمي ... وأحذر للصديق من الشقيق
وإن أبصرتني حرا مطاعا ... فإنك واجدي عبد الصديق
أفرق بين معروفي ومني ... وأجمع بين مالي والحقوق
وقال الصلتان العبدي:
إذا ما أخي يوما تولى بوده ... وأنكرت منـه بعض ما كنت أعرف
عطفت عليه بالمودة إنني ... على مدبر الإخوان بالبر أعطف
ولست وإن ولى بود على الذي ... بذلت له من صفو ودي آسف
فأغفر منـه ذنبه لاصطناعه ... وأستر منـه بعض ما يتكشف
فإغضاؤك العينين عن عيب صاحب ... لعمرك أبقى للإخاء وأشرف
قال الطائي:
ذو الود مني وذو القربى بمنزلة ... وأخوتي أسوة عندي وإخواني
عصابة جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإن فرقوا في الأرض جيراني
أرواحنا في مكان واحد وغدت ... أبداننا بشآم أو خراسان
قال معن بن أوس المزني:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
وتركب حد السيف من أن تضمـه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كف تبدل
قال أبو نـهشل حميد بن عبد الحميد الطوسي:
عدلت عن الرحاب إلى المضيق ... وزرت البيت من غير الطريق
وتظلم عند طاعتك الموالي ... وليس الظلم من فعل الصديق
تجود بفضل عفوك للأقاصي ... وتمنعه من الخل الشفيق
وتحملني وأنت شقيق نفسي ... على هول الصواعق والحريق
وتعرض حاجتي فتعد فيها ... شفيعا غير منطقك الرقيق
تقدم سوء ظنك بي وتنسى ... محافظتي على وجب الحقوق
أما والراقصات بذات عرق ... ورب الركن والبيت العتيق
لقد أطلعت لي تهما أراها ... ستحملني على مضض العقوق
وأحسب ها هنا عتبا وسخطا ... ولست لسخط عبدك بالمطيق
قال محمد بن حازم:
من يخبرك بسب عن أخ ... فهو الشاتم لا من شتمك
ذاك أمر لم يواجهك بـه ... إنما اللوم على من أعلمك
إن ذا اللؤم إذا أكرمته ... حسب الإكرام حقا لزمك
قال آخر:
إذا كنت لا يرضيك عن من توده ... سوى جمع ما تهوى فأنت المفند
خذ العفو ممن قد رضيت إخاءه ... وحسبك منـه أن يصح التودد
قال آخر:
في انقباض وحشمة فإذا ... لاقيت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما شئت غير محتشم
قال آخر:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
فإني رأيت الحب في القلب والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب
قال الحسين بن مطير:
ونفسك أكرم عن نفوس كثيرة ... فما بك نفس بعدها تستعيرها
وما الجود عن فقر الرجال ولا الغنى ... ولكنـه خيم الرجال وخيرها
قال زهير:
(1/217)
وليس لمن يركب الهول بغية ... وليس لأمر حطه الله حامل
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل
قال عدي بن زيد:
كفى زاجرا للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي
فنفسك فاحفظها من الغي والردى ... متى تغوها تغو الذي بك يقتدي
وإن كانت النعماء عندك لامرئ ... كفاك بها فاحد المطالب وازدد
وللبخلة الأولى لمن كان باخلا ... أعف ومن يبخل يلم ويزهد
إذا ما امرؤ لم يرج منك هوادة ... فلا ترجها منـه ولا دفع مشـهد
وعد سواه القوم واعلم بأنـه ... متى ما يبن في اليوم يصرمك في الغد
إذا أنت فاكهت الرجال فلا تلع ... وقل مثل ما قالوا ولا تتزيد
عن المرء لا تسأل وابصر قرينـه ... فإن القرين بالمقارن يقتدي
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المـهند
وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجر ... إذا حضرت أيدي الرجال المشـهد
قال آخر:
إذا أنت أعطيت القليل فلا تكن ... ل مستقلا عن طريق التجبر
ولا من طريق المن مستكثرا لما ... فعلت وأنت المرء غير مقصر
وعد للذي أوليته العرف مرة ... بعائد فضل منك غير مكدر
ولا تستعض منـه ثناء فترجعا ... سواء ويبقى الفضل كالمتحير
قال آخر:
دار الصديق إذا استشاط تغيظا ... فالغيظ يخرج كامن الأحقاد
ولربما كان التغضب باحثا ... لمثالب الآباء والأجداد
قال سعيد بن وهب:
لا خير في الشرب إلا مع أخي ثقة ... إن سر غنى وإن غنيته طربا
يعطيك صمتا إذا حدثته وإذا ما ... شربت حيا وإن خالطته شربا
قال آخر:
أرى للخمر حقا لا أراه ... لغير الراح إلا للنديم
هو القطب الذي دارت عليه ... رحى اللذات في الزمن القديم
قال آخر:
ألم تعلمي يا سلم أني موكل ... بما سر ندماني في العسر واليسر
وأني لم أبسط لساني ولا يدي ... لوجه نديمي حين فندني سكري
قال آخر:
ليس من شأنـه إذا دارت ال ... كأس فأزرى إدمانـها بالحلوم
قول ما يسخط النديم وإن ... أسخطه عند ذاك قول النديم
قال آخر:
ورضيع راضعت في كبر الس ... ن وأضحى أخا لدي مطاعا
لم يكن بيننا رضاع ولكن ... صيرت بيننا المدام رضاعا
قال يحيى بن زياد:
ولست له في فضلة الكأس قائلا ... لأصرفه عنـها تحس وقد آبى
ولكن أحييه وأكرم وجهه ... وأشرب ما أبقى وأسقيه ما اشتهى
قال حميد بن عبد الحميد الطوسي لبعض من استأذن عليه وهو في النبيذ:
إن كنت ترضى بالسواء وبالتي ... تدع الصحيح من الرجال سقيما
فادخل على حجر الحداق ترى لها ... فضلا أبان خلائقا وجسوما
متفضلين مقددين قد أسندوا ... زقا أمق وبربطا مختوما
قال آخر:
أعيذك من ركبة بالعشي ... تحط وتهدم قدر النبيل
فإما رجعت بذل الحجا ... ب وإما حللت محل الثقيل
الباب الخامس والثمانون
ذكر
ما قيل في ذم الإخوان وشكاية الزمان
حدثنا محمد بن سلمة الواسطي قال: حدثنا يزيد بن هارون ومحمد بن حرب قالا: حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عروة عن عائشة قال: كانت عائشة من أفصح الناس وأقولهم لشعر لبيد. قالت: قال لبيد في الجاهلية:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يتأكلون ملاذة وخيانة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
قالت عائشة: وكيف بلبيد لو أدرك زماننا هذا، قال عروة: فكيف بعائشة لو أدركت ما نحن فيه اليوم. قال هشام: كيف بأبي لو أدرك ما نحن فيه اليوم.
(1/218)
حدثنا أبو البحتري عبد الله بن محمد بن شاكر قال: حدثنا محمد بن جعفر الأحمر قال: كنا يوما عند أبي نعيم فتذاكرنا حديث عائشة حيث ذكرت شعر لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
قال: فأنشدنا أبو نعيم:
ذهب الناس فاستقلوا وصرنا ... خلفا في أراذل النسناس
في أناس تعدهم في عديد ... فإذا فتشوا فليس بناس
كلما جئت أبتغي النيل منـهم ... بدروني قبل السؤال بياس
وبكوا لي حتى تمنيت أني ... مفلت عند ذاك رأس براس
قال آخر:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضا ليدفع معور عن معور
ولطفيل بن أسود المحاربي:
أشاقك ربع بالستار قديم ... أقام وما من حل فيه مقيم
لإقحاط أعوام كأن وليدها ... وإن كان حي الوالدين يتيم
قال آخر:
أخ بيني وبين الدهر ... صاحب أينا غلبا
صديقي ما استقام فإن ... نبا دهر علي نبا
وثبت على الزمان بـه ... فعاد بـه وقد وثبا
ولو عاد الزمان أخا ... لعاد بـه أخا حدبا
قال ابن طوعة الفزاري:
فلو أن قومي أكرموني وأتأقوا ... سجالا بها أسقي الذين أساجل
كففت الأذى ما عشت عن حلمائهم ... وناضلت عن أحسابهم من يناضل
ولكن قومي عزهم سفهاؤهم ... عن الأمر حتى ليس للأمر حامل
تظوهر بالعدوان واختيل بالغنى ... وشورك في الرأي الرجال الأماثل
قال آخر:
إني ابتليت بمعشر ... نوكى أخفهم ثقيل
قوم إذا جالستهم ... صدئت لقربهم العقول
قوم حضور غيب الأذ ... هان ليس لها قبول
لا يفهمون حديثهم ... ويحل عنـهم ما أقول
فهم كثير بي وأع ... لم أنني بهم قليل
قال عمرو بن قميئة:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس يرام
فلو أنـها نبل إذا لاتقيتها ... ولكنما أرمى بغير سهام
وأفنى وما أفني من الدهر ليلة ... ولم يغن ما أفنيت سلك نظام
وأهلكني تأميل يوم وليلة ... وتأميل عام بعد ذاك وعام
وللبحتري:
لنا في كل يوم أصدقاء ... تعود عدى وحالات تجول
وما فقد الجميل لقرب عهد ... فيسأل عنـه بل نسي الجميل
ولإبراهيم بن العباس:
وكنت أخي بإخاء الزما ... ن فلما نبا صرت حربا عوانا
وكنت أعدك للنائبا ... ت فقد صرت أطلب منـه الأمانا
وكنت أذم إليك الزما ... ن فقد صرت أحمد فيك الزمانا
وقال إبراهيم بن العباس أيضا:
أخ كنت أوى منـه عند ادكاره ... إلى ظل أيام من العز باذخ
جرت نوب الأيام بيني وبينـه ... فأقلعن منا عن ظلوم وصارخ
فإني وإعدادي لدهري محمدا ... كملتمس إطفاء نار بنافخ
وذكر لنا عن نعيم بن حماد أنـه قال: بلغنا أن سهما وجد على عهد تبع ملقى في واد مكتوب عليه بيتان من شعر، فترجم فإذا هو:
ألا هل إلى أبيات شيخ بذي اللوى ... لوى الرمل فاصدقني النفوس تعاد
بلاد بها كنا وكنا نحلها ... إذا الناس ناس والبلاد بلاد
قال فنظرنا، فإذا السهم منذ سقط إلى أن وجد ألف عام.
قال إبراهيم بن العباس:
نعم الزمان زماني ... الشأن في الخلان
ممن رماني لما ... رأى الزمان رماني
ومن ذخرت لنفسي ... فعاد ذخر الزمان
وقيل لي خذ أمانا ... من أعظم الحدثان
لما التمست أمانا ... إلا من الإخوان
وأنشدنا أبو طاهر الدمشقي:
إذا مجلس الأنصار خف من أهله ... وأقفر من أهل الصفاء المثلم
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعلم
ولآخر:
جرت رحم بيني وبين منازل ... سواء كما يستنزل الدين طالبه
(1/219)
فربيته حتى إذا كان شيظما ... يكاد يساوي غارب الفحل غاربه
تعمد حقي ظالما ولوى يدي ... لوى يده الله الذي هو غالبه
قال علي بن جبلة:
جمعت له جمع امرئ ذي مودة ... وحطت عليه الود من كل جانب
وأصفيته مني هوى لا يشوبه ... خلاف ولا يبليه طول التجارب
فلما زهاه الفضل وامتد شأوه ... وأصبح في الإخوان جم ......
رماني بسهم كنت قبل أريشـه ... وودع مني صاحبا أي صاحب
قال أبو هشام:
لولا القديم وحرمة مرعية ... لقطعت ما بيني وبين هشام
لا حرمة الأدب القديم يصونـها ... وأراه يدفع حرمة الإسلام
فكأنما كانت مودتنا له ... وإخاؤنا حلما من الأحلام
قال آخر:
تعالى الله ما قرب ... بعض الناس من بعض
قال آخر:
هموم أناس في أمور كثيرة ... وهمي من الدنيا خليل مساعد
نكون كروح بين جسمين فرقا ... فجسما هما جسمان والروح واحد
وقال آخر:
رب قد ملني من كنت أحسبه ... إن مت مات معي صبرا وإسعادا
فراحة بخلاص أو بعاجلة ... من المنايا نغير العمر إنفادا
أنشدني أحمد بن أبي طاهر:
وصديق لا عيب فيه إذا ... فتش إلا اغتيابه للصديق
إن يلاحظك فالشفيق وإن ... غبت فسبع عليك غير شفيق
قال آخر:
يا صاح في قلبه البغضاء راكدة ... فالنفس تكتمـها والعين تبديها
والعين تعرف في عيني محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها
قال آخر:
إني وإن بني بكر على خلق ... عما قليل أراه سوف ينكشف
يزملون جنين الضغن بينـهم ... والضغن أشوه أو في وجهه كلف
إن كاتموا بالقلى عمت عيونـهم ... والعين تظهر ما في القلب أو تصف
قال آخر:
تخذتكم درعا وترسا لتدفعوا ... نبال العدى عني فكنتم نصالها
وقد كنت أرجو منكم خير ناصر ... على حين خذلان اليمين شمالها
فإن أنتم لم تحفظوا لمودتي ... ذماما فكونوا لا عليها ولا لها
قفوا وقفة المعذور عني بمعزل ... وخلوا نبالي والعدى ونبالها
قال آخر:
ألا أيها الدهر الذي قد مللته ... لتخليطه هلا مللت حياتي
فقد وجلال الله حييت دائبا ... إلي على حب الحياة وفاتي
قال آخر:
كسالى إذا لاقيتهم غير منطق ... يعل بها المحزون وهو عناء
وإني لأرجوكم على بطئ سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء
أخبر من لاقيت إن قد وفيتم ... ولو شئت قال المخبرون أساءوا
فهلا سعيتم أسرة مازن ... وهل كل حي في الوفاء سواء
قال آخر:
من الأخلاء من أمست مودته ... مع الزمان إذا ما خاف أو عتبا
إذا وترت امرءا فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد بـه عنبا
قال آخر:
وموارب يخفي ضغائنـه ... حسن الثياب وعرضه خلق
فتوق خلة كل ذي ملق ... متلون وانظر بمن تثق
قال آخر:
لكل امرئ شكل من الناس مثله ... فأكثرهم شكلا أقلهم عقلا
وكل أناس آلفون لشكلهم ... فأكثرهم عقلا أقلهم شكلا
لأن الكثير العقل ليس بواحد ... له في شريح حين تعقده عدلا
وكل سفيه طائش إن فقدته ... وجدت له في كل ناحية مثلا
قال آخر:
وصاحب كان لي وكنت له ... أشفق من والد على ولد
كنا كساق سعت بنا قدم ... أو كذراع نيطت إلى عضد
حتى إذا استرفدت يدي يده ... كنت كمسترفد يد الأسد
قال آخر:
فأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... فإن أعرضت أيقنت أن لا أخا ليا
فلا زاد ما بيني وبينك بعدما ... عرفتك في الحاجات إلا تنائيا
فعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عيب السخط تبدي المساويا
(1/220)
وهذا لعمري من أحسن الكلام لفظا وأجوده معنى، وأنـه لسهل المأخذ قريب من الحق وقد ذكرنا في هذا الباب والذي قبله من مدح الزمان، وذمـه، ومساوئ الإخوان ومحاسنـهم، ومن وصف وفائهم وتغيرهم ما يدل ذوي الخواطر الصحيحة على أن الفريقين جميعا معا غير مصيبين للحقيقة إذ الزمان لم يعر من سداد وفساد، ولم يخل من أهل وفاء ورعاية، ومن أهل غدر وخيانة. فمن سامحه الزمان بما يهواه ويثبت له الإخوان على الخلق الذي يرضاه، مدح زمانـه، وحمد إخوانـه. ومن جرى عليه الأمر بخلاف ذلك، صرف الأمر فيه إلى فساد الزمان، وغدر الإخوان، على أن منـهم من يذم إخوانـه، ويعذر زمانـه. ألم تسمع الذي يقول:
أرى حللا تصان على رجال ... وأعراضا تهان فلا تصان
يقولون الزمان بـه فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان
قال آخر:
إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد الناس
فلا يغرنك أضغان مزملة ... قد يضرب الدبر الرامي بإحلاس
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وأنصف من هؤلاء كلهم الذي يقول:
وأعيب العيب بعد الشرك تعرفه ... في كل نفس عماها عن مساويها
عرفانـها بعيوب الناس تبصره ... فيهم وليس ترى العيب الذي فيها
يا عائب الناس قد أصبحت متهما ... إذ عبت منـهم أمورا أنت آتيها
كالملبس الناس من عري وعورته ... للناس بادية ما إن يواريها
الباب السادس والثمانون
ذكر
من ارتجل شعرا
لم يقدم له قبل ذلك فكرا
حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثني عبد الله بن شبيب قال: حدثني حفص بن الأروع الطائي قال: كنت أسير في بلاط طي، فرأيت جارية تسوق أعنزا لها فقلت: يا جارية، أي البلاد أحب إليك، فقالت:
أحب بلاد الله ما بين منعج ... إلي وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها حل الشباب تمائمي ... وأطيب أرض مس جلدي ترابها
وأنشدتني أم الجحاف الطائية ببلاط طي:
بلاد بها أدركت جدي ووالدي ... وأطيب أرض مس جلدي ترابها
وذكر أن جميلا وكثيرا وعمر بن أبي ربيعة اجتمعوا يوما عند عبد الملك ابن مروان، فأوقرت ناقة ورقاء، ثم قال: ليقل كل واحد منكم أبياتا في الغزل، فأيكم كان قوله أحسن فهي له، قال جميل:
حلفت يمينا يا بثينة صادقا ... فإن كنت فيها كاذبا فعميت
حلفت لها والبدن تدمى نحورها ... لقد شقيت نفسي بها وعنيت
ولو أن جلدا غير جلدك مسني ... وباشرني تحت اللحاف شريت
ولو أن داعي الموت يدعو جنازتي ... بمنطقكم في الناطقين حييت
وقال كثير:
بأبي وأمي أنت من معشوقة ... فطن العدو لها فغير حالها
وسعى إلي بعيب غرة نسوة ... جعل الإله خدودهن نعالها
ولو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها
وقال عمر بن أبي ربيعة:
ألا ليت أني حين تدنو جنازتي ... شممت الذي ما بين عينيك والفم
وليت طهوري كان ريقك كله ... وليت حنوطي من مشاشك والدم
وليت سليمى في المنام ضجيعتي ... أعانقها في جنة أو جهنم
فقال عبد الملك: يا صاحب جهنم دونك الناقة بما عليها، وذكروا أن عبد الملك ابن مروان جمع بين جرير والفرزدق، وأمر بناقة فأوقرت، وقال: أيكما أقام الناقة ببيت من شعر فهي له. فقال الفرزدق:
أنيخها ما بدا لي ثم أبعثها ... كأنـها نقنق يهوى بصحراء
فلم تقم الناقة فقال جرير:
أنيخها ما بدا لي ثم أبعثها ... ترخي المشافر واللحيين إرخاء
وزجر الناقة بآخر البيت، فوثبت، فدفعها عبد الملك إليه.
واجتمعا أيضا فقال جرير:
أنا القطران والشعراء جربى ... وفي القطران للجرب الشفاء
فقال الفرزدق:
فإن تك أنت قطرانا فإني ... أنا الطاعون ليس له دواء
فقال جرير:
أنا الموت الذي لا بد منـه ... وليس لهارب منـه نجاء
(1/221)
وحدثني أبو طالب الدمشقي بإسناد ذكره: أن الفرزدق وجريرا اصطحبا، فعطف جرير ناقته ليبول، وتخلف، وحنت ناقة الفرزدق فقال:
علام تلفتين وأنت تحتي ... وخير الناس كلهم أمامي
متى تأتي الرصافة تستريحي ... من الأدلاج والدبر الدوامي
ثم قال: كأنك يا ابن المراغة قد تسمع بهذين البيتين فقال:
تلفت إنـها من تحت قين ... برأس الكير والفأس الكهام
متى تأتي الرصافة تخز فيها ... كخزيك في المواسم كل عام
فلحقهم جرير فقال: الروية يا أبا حرزة، ما سمعت ما قال أخوك أبو فراس فأنشده البيتين، فأطرق جرير ثم جاء بالبيتين فقال راويتهما لعنكما الله من شيطانين يعلم كل واحد منكما ما في نفس صاحبه.
وبلغني أن الفرزدق مر وهو شارب بامرأة فتعقل في سراويله، فالتفتت المرأة إلى أخرى فقالت: انظري هذا الشيخ، كيف يتعقل في سراويله، فالتفت إليهما فقال:
وأنت لو باكرت مشمولة ... صهباء مثل الفرس الأشقر
رحت وفي رجليك عقالة ... وقد بدا هنك من المئزر
وبلغني عن بعض أهل الأدب أنـه قال: كنت عند عمارة، فدخل ابن عتبة فقال: ألا أعجبكم، قلنا: بلى، قال: أنـه مرت بي الساعة امرأة وكانت منتقبة، فلما دنت مني حدرت خمارها لأنظر إليها فرأيتها فاستبشعت خلقتها، فقطبت وجهي فقالت: يا شيخ، ألا يعجبك الملاح، قلت: بلى، ثم قلت:
ويعجبني الملاح وكل دل ... ولكن لا أراك من الملاح
ولكن المليحة مثل بدر ... إذا سفرت وأنت من القباح
فخجلت وانصرفت. وذكر أن الحجاج جلس للمعزين لما مات ابنـه وأخوه، وكان بين موتهما جمعة، ووضع بين يديه مرآة، وولى الناس ظهره، وقعد في مجلسه فكان ينظر إلى ما يصنعون، فدخل الفرزدق، فلما نظر إلى فعل الحجاج ضحك، فلما رأى الحجاج ذلك منـه، قال: أتضحك، وقد هلك المحمدان، فأنشأ الفرزدق يقول:
لئن جزع الحجاج ما من مصيبة ... تكون لمحزون أجل وأوجعا
من المصطفى والمصطفى من خيارهم ... خليله إذ باتا جميعا فودعا
أخا كان أغنى أعين الأرض كلها ... وأغنى ابنـه أهل العراقين أجمعا
جناحا عقاب فارقاه كلاهما ... ولو نزعا من غيره لتضعضعا
سميا نبي الله سماهما بـه ... أب لم يكن عند النوائب أخضعا
قال إسحاق الموصلي: كان قتادة بن معرب اليشكري وزياد الأعجم عند المغيرة بن المـهلب، فتهاجيا، فأمر المغيرة فوجي عنق قتادة ومزقت عليه ثيابه:
لعمرك ما الديباج خرقت وحده ... ولكنما خرقت جلد المـهلب
فما شان عرض المرء غير قصيدة ... يسار بها في كل شرق ومغرب
وإن يدي رهن لكم بقصيدة ... تكون عليكم كالحريق المـهلب
وكان عبد الله بن العباس يمر في بعض الطريق وهو معتمد على بعض ولده فلقيه قوم فلحظوه فأنشأ ابنـه يقول:
نظروا إليك بأعين محمرة ... نظر التيوس إلى شفار الجازر
خزر العيون منكسي أبصارهم ... نظر الذليل إلى العزيز القاهر
أحياؤهم عار على موتاهم ... والميتون فضيحة للغابر
وبلغني عن عنان جارية الناطفي أن مولاها ضربها فبكت، وحضرها بعض الشعراء فقال:
بكت عنان فجرى دمعها ... كلؤلؤ ينسل من خيطه
فقالت من وقتها:
كذاك من يضربها ظالما ... تجف يمناه على سوطه
وحدثني محمد بن الخطاب الكلابي، قال: حدثت عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: قدم علينا أعرابي فجالسناه فقال: دعا القتال الكلابي رجل يدعى أبا سفيان إلى وليمة فانتظره من غده فلم يأت رسوله فأنشأ القتال يقول:
وإن أبا سفيان ليس بمولم ... بخير فهابي فقرة من حوارك
قال فقلت: أتحب أن أزيدك بيتا، قال: نعم، فأنشدته:
فبيتك خير من بيوت كثيرة ... وقدرك خير من وليمة جارك
فقال الأعرابي: والله لقد أتيت بها بعد ما تعرف الورد، وأنك لمن طراز ما رأيت بالعراق مثله، وما يلام الملوك على اصطفائهم لك، وإدنائهم إياك، ولو كان الشباب يشترى لاشتريته لك بثمن.
(1/222)
وقف أعرابي على الحسين بن علي رضوان الله عليه في المسجد الحرام وحوله حلقة فقال لبعض جلسائه: من هذا الرجل، فقال: الحسين بن علي، فقال إياه أردت، فقال: وما تصنع بـه يا أعرابي فقال: بلغني أنـهم أهل بيت حكمة، وأنـهم يتكلمون فيعربون في كلامـهم وإني قد قطعت بوادي وقفارا، وأودية، وجئت لأطارحه الكلام، وأسأله عن عويص العربية فقال له: إن كنت جئت لهذا فابدأ بذلك الشاب، وأومأ بيده إلى الحسين بن علي، فوقف عليه الأعرابي، فسلم، فرد السلام ثم قال: ما حاجتك يا أعرابي، فقال: إني قد جئتك من الهرقل والجعلل والأيتم والهيهم فتبسم الحسين وقال: يا أعرابي لقد تكلمت بكلام لا يعقله إلا العالمون. قال الأعرابي: وأقول أكثر من هذا فهل أنت مجيبي على قدر ذلك فقال الحسين: قل ما شئت، فإني مجيبك عنـه، فقال الأعرابي: أنا بدوي، وأكثر مقالاتي الشعر، وهو ديوان العرب، فقال له الحسين: قل ما شئت فإني مجيبك عنـه فأنشأ الأعرابي يقول:
هفا قلبي للهو ... وقد ودع شرخيه
وقد كان أنيق ال ... غصن جراري ذيليه
علالات ولذات ... فيا سقيا لعصريه
فلما عمم الشيب ... من الرأس بطاقيه
وأمسي قد عنا ... ني منذ تجداد خضابيه
تسليت عن اللهو ... وألقيت بعاعيه
وفي الدهر أعاجيب ... لمن يلبس حاليه
فلم يعلم ذوو رأي ... أصيل فيه رأييه
لألفى عبرة منـه ... له في كر يوميه
فقال الحسين: قد قلت فأحسنت، فاسمع مني فقال:
فما ربع شجاني ق ... د محا آيات رسميه
ومور حرجف تترى ... على تلبيد نؤييه
رأى مثعنجر الود ... ق يجود من خلاليه
وقد أحمد برقاه ... فلا ذم لرعديه
وقد جلجل رعداه ... فلا ذم لبرقيه
ثجيج الرعد ثجاج ... إذا أرخى نطاقيه
فأضحى دارسا قفرا ... ليبنونة أهليه
فقال الأعرابي: تالله ما رأيت كاليوم مثل هذا الغلام، وأغرب منـه كلاما، ولا أذرب منـه لسانا، ولا أفصح منـه منطقا، فالتفت إليه الحسين فقال: يا أعرابي:
هذا غلام كرم الرح ... من بالتطهير جديه
كساه القمر القمقام ... من نور سنائيه
ولو أعذر طماح ... فضحنا عن عذاريه
وقد أرضيت عن شعري ... وقومت عروضيه
فقال الأعرابي: بارك الله فيكما، فوالله لقد أتيتكما وأنا مبغض لكما، وانصرفت وأنا محب لكما، راض عنكما، فجزاكما الله عني خيرا ثم انصرف.
وبلغني أن الحارث بن حلزة اليشكري اعتمد على سية قوسه حتى نفذت في كفه، وهو لا يشعر بذلك، لاشتغال فكره، حتى فرغ من ارتجال القصيدة التي يقول فيها:
آذنتنا ببينـها أسماء ... رب ثاو يمل منـه الثواء
بعد عهد لها ببرقة شما ... ء فأدنى ديارها الخلصاء
لا أرى من عهدت فيها فأبكي ... أهل ودي وما يرد البكاء
أوقدت نارها بجنبي حر ... ورات فأيهات منـها الصباء
غير أني قد أستعين على ال ... هم إذا خف بالثوي النجاء
وتعاليت فاستعنت بجلمود أم ... ور فيها لناج نجاء
أتلاقي بها الهواجر إذ ك ... ل ابن هم بلية عمياء
وفعلنا بكم كما قدر الله ... وما أن للحائنين دماء
وزعمتم أن كل من ضرب ال ... عير موال لها وأنى الولاء
مثلهم يخرج الجموع من ال ... غلاق لا رأفة ولا إبقاء
وثمانون من تميم بأيديهم ... رماح صدورهن القضاء
لا يقيم العزيز بالبلد السوء ... ولا ينفع الخلي الخلاء
جمعوا أمرهم بليل فلما ... أصبحوا أصبحت لهو غوغاء
فحملناهم بطعن كما تنـهز ... في جمة الطوي الدلاء
وثنيناهم بضرب كما يخرج ... من خربة المزاد الماء
ورقدنا ببيت غسان فالمنذر ... كرها إذ لا تكال الدماء
مثلهم تخرج النصيحة لل ... قوم فلاة من دونـها أفلاء
إذ رفعنا الجمال من سعف البحر ... ين سيرا حتى تناهى القضاء
وهزمنا جموع أم قطام ... وله فارسية خضراء
(1/223)
ثم ملنا على تميم فأحرمنا ... وفينا من كل حي إماء
وأكلنا بذلك الناس حتى ... ملك المنذر بن ماء السماء
ملك أضلع البرية ما يو ... جد فيه لما لديه كفاء
أيها الشانئ المرقش عنا ... عند عمرو فما له إبقاء
لا تهنا بما فرشت فإنا ... طال ما قد وشى بنا الأعداء
فبقينا على الشناءة تنمي ... نا حدود أعزة قعساء
في أبيات عدة من هذه القصيدة فيها تمام الباب، تركناها لشـهرتها.
وهذه القصيدة وإن كانت من السبع الجارية على ألسن الصبيان والمبتدئين، فلم يمنع ذلك من ذكرنا للأدباء والمتأدبين، وإنما غرضنا من هذا الباب أن نذكر ما ارتجل من الأشعار التي لم تجر رياضتها في الادكار، فإذا أضربنا عن ذكرها، وهي من خير ما ذكرناه، كان غلطا في التأليف، وهجنة على صاحب التصنيف، وعلى أنا لم نرسم منـها إلا قليلا من كثير، ولم ندع ما تركناه منـها رغبة عنـها، غير أن الباب لا يسعه. ولعلي بن جبلة قصيدة ارتجلها بحضرة أبي دلف من وقته، وذلك أنـه دخل عليه في الشعراء، ولم يكن أعد له من نحو ما أعدوه، وهي التي يقول فيها:
ريعت لمنشور على مفرقة ... ذم لها عهد الصبا حين انتسب
أشرقن في أسود أزرين بـه ... كان دجاه لهوى البيض سبب
فنازل لم يبتهج بقربه ... وذاهب ألقى جوى حين ذهب
كان الشباب لمة أبهى بها ... وصاحبا حرا عزيز المصطحب
إذ أنا أجري سادرا في غيه ... لا أعتب الدهر إذا الدهر عتب
أبعد شأو اللهو في أترابه ... وأقصد الخود وراء المحتجب
ثم انقضى ذاك كأن لم تغنـه ... وكل مغنى فإلى يوم عطب
فحمل الدهر ابن عيسى قاسما ... ينـهض بـه أبلج فراج الكرب
تكاد تبدي الأرض ما تضمره ... إذا تداعت خيله هلا وهب
ويستهل أملا وخيفة ... بينـهما إذا استهل أو خطب
يا زهرة الدنيا ويا باب الندى ... ويا مجير الرعب من يوم الرهب
خذها امتحانا من مليء بالثنا ... لكنـه غير مليء بالنشب
وفي هذه القصيدة أبيات في وصف الفرس مقدمة على أكثر ما في نحوها، وقد ذكرناها في بابها، فكرهنا إعادتها. وعلي بن جبلة هذا هو المعروف بالعكوك، وهو جيد الذكر، مستعذب الشعر، حسن البديهة والروية.
وبلغني أن أبا دلف قال له: إنما تحسن أن تمدح، ولا تحسن أن تهجو. فقال له: الهجاء هدم، والمدح بناء، ومن يحسن البناء، يحسن الهدم، فلم يقبل القاسم ذلك منـه فقال:
أبا دلف يا أكذب الناس كلهم ... سواي فإني في مديحك أكذب
فقال له: ويلك، أسمع هذا منك، قال: لا، قال: فلا تسمعه أحدا.
الباب السابع والثمانون
ذكر
الشعر الذي يستظرف لخروجه عن حد ما يعرف
هذا شعر لا يعجم منـه شيء البتة.
احمد إلهك واعلم ما دعاك له ... وسارع الدهر واعمل أو دع العملا
المرء للأمل الممدود مأكله ... والله مد لأهل المدة الأملا
عد العداوة للإسلام وارم له ... دار المـهالك واعمد معمدا سهلا
واعدل لدى الحكم عدلا لا مرد له ... ودم دوام هداة كلهم عدلا
ومثله:
أسل هما وأحمد الله ودع ... كل ما أورد هما وأرح
ودع الحرص لأهل الحرص لا ... عد للحرص ولا أهل المرح
وعدو عاد سلما مصلحا ... صل ودع ما كر دهر أو رمح
واسمح الدهر واكرم مسلما ... حصل السر له كل المدح
طمع المرء مـهلك ... كلما أط أمر ألح
أصلح الله لك المال من ال ... حال ما أصلحه الله صلح
ومثله:
ارع الوداد لأهل ودك كلهم ... وأودهم رأس الصلاح محدد
واحمل لأهل الود كل ملمة ... واعمل كما عمل الودود الأسعد
والله مورد ما أراد محله ... ملك له كرم العلا والسؤدد
ملك هو المحمود طهر ملكه ... كرم وحلم وهو عال أوحد
ولبعض أهل هذا العصر:
لو سامح الدهر أو لو ساعد العمر ... لم أرع عهدا سواك الدهر يا عمر
(1/224)
[الموسوعة الشاملة - الزهرة غول مازن]